هل ينجح البرلمان التونسي في القضاء على السياحة الحزبية؟

هل ينجح البرلمان التونسي في القضاء على السياحة الحزبية؟

02 مايو 2020
السياحة البرلمانية في تونس ظاهرة قديمة متجددة(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

يحاول البرلمان التونسي إنهاء السياحة الحزبية والبرلمانية، التي زعزعت صورته وهزّت الأحزاب بسبب نزيف الانسلاخات والاستقالات، وقفز النواب بين الكتل والمجموعات النيابية، ليتواصل الخلاف والجدل منذ سنوات بين من يشددون على حرية النائب وخياراته، وبين من يرون في استقرار المشهد السياسي والانضباط الحزبي في البلاد أولوية.

وبرزت مسألة تجريم السياحة البرلمانية ومنعها إلى سطح أولويات مجلس نواب الشعب بقوة، منذ إعلان تشكيل الكتلة البرلمانية الجديدة من المستقيلين عن حزب "قلب تونس". فبعد تجمع تسعة نواب في الكتلة "الوطنية"، استعرت نار الخلاف بين رفاق الأمس، وبحث زعيم حزب "قلب تونس" نبيل القروي، عن سبل لمنع تكرار ذلك، وإيقاف نزيف تشظي كتلة حزبه التي كانت الثانية انتخابياً بعد كتلة حركة "النهضة" بـ38 نائباً، فتحولت بعد الانسلاخات عنها إلى 29 نائباً فقط.

وأضرّت الاستقالات أيضاً بكتلة "ائتلاف الكرامة" الذي خسر ثلاثة من أعضائه، ليبقى في صفوفه 19 نائباً، وحزب "الرحمة" الذي خسر نوابه الثلاثة، فيما بقي "ائتلاف أمل وعمل" بنائب وحيد بعد أن استقالت نائبته الثانية إيمان بالطيب، في الوقت الذي يتواصل فيه نزيف الاستقالات من دون أي مانع أو حاجز.

ويُعدّ رئيس البرلمان التونسي، وزعيم الحزب الأول في مجلس نواب الشعب، راشد الغنوشي، من بين رافضي السياحة البرلمانية، والمتمسكين بتنقيح النظام الداخلي للبرلمان، إذ أعلن منذ توليه رئاسة مجلس الشعب، سعيه لوضع حدّ لهذا الاضطراب. ودعا الغنوشي في كلمته خلال خطاب توليه رئاسة البرلمان أمام النواب، إلى "البحث في أفضل السبل لتغيير النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب لمنع السياحة الحزبية"، وأشار إلى مقترح "فقدان النائب لصفته البرلمانية إذا غادر كتلته التي ترشّح عنها، لتعزيز أخلقة الحياة السياسية"، على حدّ تعبيره.

وتعدّ السياحة الحزبية في تونس ظاهرة قديمة متجددة، أرهقت الأحزاب البرلمانية الكبرى منذ انطلاق المجلس الوطني التأسيسي (أول برلمان بعد الثورة)، وعانى منها مجلس الشعب بعد المصادقة على الدستور خلال ولايته السابقة، وفي العهدة الحالية، وبقي البرلمانيون يتخبطون بحثاً عن حلول ومخارج لتجاوز هذا الإشكال منذ العام 2011.

وحاول نواب الأحزاب البرلمانية الكبرى الدفع لحماية تماسك كتلهم في البرلمان، والحفاظ على استقرار أحزابهم ولحمتها، بالبحث عن منافذ قانونية لذلك، من خلال محاولات لتعديل القانون الانتخابي في مناسبات عدة، عبر إدخال إجراءات جذرية تحرم النائب من مقعده بالبرلمان، إذا ما تنكّر لحزبه، فيعتبر مستقيلاً. كما حاولوا إدراج منع السياحة الحزبية خلال كتابة الدستور في العام 2014، ولكن ذهبت جميع المحاولات في مهب الخلافات السياسية، ونظراً لتمسّك أغلبية هامة بموقفها الرافض لهذا المنطق والتوجه.

وتعدّدت أيضاً محاولات إدراج منع السياحة البرلمانية في النظام الداخلي للبرلمان خلال السنوات التسع المنقضية، غير أنّ جميع المساعي سقطت أمام صمود طيف هام من النواب الرافضين لأي تعديل أو تنقيح يقيّد حرية مواقفهم، ويقلّص حظوظ تنقلهم، ويحرمهم من ورقة تغيير أحزابهم وانتمائهم البرلماني.

ولم يتوقف يوماً الخلاف بين البرلمانيين دعاة حرية النائب في تغيير كتلته البرلمانية وأحقيته في الاستقالة من حزبه إذا لم يعد متماشياً مع أفكاره أو حاد عن توجهاته ومن ثمّ الاندماج في مجموعات برلمانية جديدة، وبين المدافعين عن استقرار المشهد البرلماني والمتمسكين بالانضباط الحزبي والالتزام السياسي.

وعاد موضوع مجابهة السياحة البرلمانية إلى الواجهة من جديد أخيراً، مع مناقشات لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية بمجلس نواب الشعب، في 22 أبريل/نيسان الماضي، لتدابير تنظيم الحياة البرلمانية، وتقويم ما يعتبره برلمانيون، ثغرات ونقاط ضعف أثّرت على عمل السلطة التشريعية، من بينها السياحة البرلمانية.

ووافقت اللجنة البرلمانية بأغلبية الأعضاء الحاضرين على مقترح تعديل للنظام الداخلي، يتمثّل في منع أيّ عضو من أعضاء مجلس الشعب، عند بداية العهدة النيابية المحددة بخمس سنوات، من الانتماء لكتلة نيابية جديدة غير الكتلة الأصلية التي كوّنها حزبه أو الائتلاف الذي رشحه، وبالتالي حرمان من ينوي الاستقالة من المجموعة البرلمانية الحزبية، من الانضمام إلى أي كتلة منافسة، بما يحتم عليه البقاء مع غير المنتمين.

وهو ما أكده رئيس لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية هيثم براهم، لـ"العربي الجديد"، إذ قال إنه تمت الموافقة بأغلبية الأعضاء الحاضرين داخل اللجنة، على مقترح قدمته كتلة حزب "قلب تونس"، يتمثّل في منع أي عضو من أعضاء مجلس نواب الشعب، عند بداية المدة النيابية، من الانتماء لكتلة غير تلك التي كوّنها الحزب أو الائتلاف الانتخابي الذي ترشح تحت اسمه. وأضاف براهم أنّ التصويت جرى على مقترح ثانٍ يتمثّل في منع الأعضاء المستقيلين من كتل، من الانتماء إلى كتلة نيابية جديدة خلال كامل المدة النيابية، إذ أفضت عملية التصويت إلى موافقة 6 أعضاء ورفض 4 واحتفاظ عضوين بصوتهما.

وأوضح براهم أنّ التصويت غير نهائي، بل يجب عرض أعمال اللجنة والمقترحات على جلسة عامة برلمانية بحضور جميع النواب للتصويت عليها، وبعد المصادقة تصبح نافذة، مشيراً إلى أنّ الجلسة العامة هي التي تقرّ في النهاية اعتماد التعديلات الجديدة من عدمه.

ولفت براهم إلى وجود نقاش واختلاف في الرؤى بين النواب حول هذه المقترحات، وتحديداً بين من يرى ضرورة تكريسها، وبين من يعارضها على اعتبار أنّ النواب منذ أدائهم القسم تحت قبة البرلمان، وبانقضاء الانتخابات، يصبحون نواباً للأمة وكافة الشعب، كما ينصّ عليه الدستور، لا نواب أحزابهم أو محافظاتهم الانتخابية وفئاتهم والقطاعات المهنية التي ينتمون لها. في حين أنّ هناك من يعتبر أنّ الاستقالة من الأحزاب خيانة سياسية وممارسة لاأخلاقية بالتنكر للناخبين والبرامج التي وعد بها الحزب والقائمة، المواطنين، في الدوائر الانتخابية.

وذاقت أحزاب برلمانية كبرى خلال السنوات الماضية ويلات الانهيار والاندثار بسبب السياحة البرلمانية، إذ قضت هذه الظاهرة على حركة "نداء تونس" التي أسسها الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، خلال العهدة البرلمانية السابقة. كما انهار على غرارها، حزب "الاتحاد الوطني الحر" الذي يتزعمه رجل الأعمال سليم الرياحي، ومن قبلهما حزب "العريضة الشعبية" الذي أسسه الهاشمي الحامدي، وحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" الذي كان يتزعمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي.

وما يجعل تجريم السياحة البرلمانية ومنعها أمراً صعباً، حقيقة أنّ هناك أحزابا تنبني وتتأسس على أنقاض أخرى، فيما تولد كتل جديدة من رحم كتل حزبية أخرى، بما يخلق معارضين أشداء لهذا المبدأ من داخل البرلمان.

وفي السياق، رأى المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "منع السياحة الحزبية هو مجرّد شعار، بل هو مشروع بعيد المنال. فكيف يطلب من كتل ولدت من السياحة الحزبية أن تجرّم سبب تواجدها؟"، مشيراً إلى أنّ "هناك كتلاً وأحزابا هي صنيعة السياحة الحزبية ونتاجها، على غرار حزبي تحيا تونس ومشروع تونس، شريكي الحكم اللذين ولدا من صلب نداء تونس ومن المنسلخين عنه".

واعتبر المؤدب أنّ "ورقة منع السياحة الحزبية تحوّلت إلى شماعة تعلّق عليها الأحزاب فشلها، باعتبارها أحزابا فتية حديثة التكوين هشة الأرضية عجزت عن المحافظة على قياداتها ونوابها، عكس الأحزاب ذات المرجعية الصلبة والتنظيم المهيكل، فيصعب معها التفتت والتشقق على غرار حركة النهضة وحزب العمال اليساري".

وأضاف المؤدب أنّ "الخلاف سيظلّ قائماً بين رافضي السياحة الحزبية من النواب المتمكنين في أحزابهم الكبرى الذين يعتبرونها خيانة وتجاوزاً، وبين النواب المستقلّين والمجموعات البرلمانية الصغرى التي تعتبر الاستقالة والانضمام حقّ وحرية وضرب من ضروب التعبير عن المواقف".

ومن الناحية النظرية، يحظى أي تعديل في منحى منع السياحة الحزبية بالأغلبية اللازمة تحت قبة البرلمان، إذا أخذنا بعين الاعتبار مساندة حركة "النهضة" و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة" و"الكتلة الديمقراطية" باعتبار أنّ حركة "الشعب" وحزب "التيار الديمقراطي" من بين الأحزاب التي نددت بذلك خلال الحملة الانتخابية الماضية. غير أنّ القرار لا يقف عند الطرح النظري للموضوع، بل يتعداه إلى تنازلات سياسية يضعها النواب في صلب قرارهم.

وفي السياق، اعتبرت أستاذة القانون الدستوري، منى كريم، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ منع السياحة الحزبية أو فقدان النائب لصفته إذا استقال، أو منعه من الاستقالة من كتلته البرلمانية أو الحزبية، مسألة لا يمكن أن تقتصر على النظام الداخلي، بل يجب أن تُضمّن في تعديل للقانون الانتخابي، أو نصّ أعلى منه قانونياً، مشيرةً إلى أنّ الدستور المغربي مثلاً يمنع السياحة البرلمانية.

وأضافت كريم أنّ تعديل النظام الداخلي يحتاج إلى مصادقة الجلسة العامة بأغلبية مطلقة للأعضاء، أي 109 نواب على الأقل، مشيرةً إلى أنه يمكن الطعن في دستورية هذه البنود من قبل النواب الرافضين، وتنظر المحكمة الدستورية في ذلك لاحقاً. ولفتت في هذا الإطار، إلى الفراغ الذي خلفه عدم انتخاب المحكمة الدستورية وتركيزها إلى اليوم، والتي كانت ستفصل في مسألة النظام الداخلي وعدد من القضايا الأخرى العالقة.

وشددت كريم على ضرورة معالجة جميع الإشكاليات والنقائص الموجودة في النظام الداخلي لمجلس الشعب، بهدف تلافي صعوبات العمل البرلماني، مشيرةً إلى أهمية مدونة السلوك البرلماني لأخلقة الحياة السياسية.