الانسحاب الإماراتي من اليمن: استدارة حرّكها التردُّد الأميركي

الانسحاب الإماراتي من اليمن: استدارة حرّكها التردُّد الأميركي

09 اغسطس 2019
جنود من التحالف في قاعدة عسكرية بالخوخة(صالح العبيدي/فرانس برس)
+ الخط -
أعلنت الإمارات مطلع شهر يوليو/ تموز الماضي تخفيض عدد قواتها في اليمن من آلاف المقاتلين إلى عشرات الخبراء الفنيين والضباط فقط، ما يعني انسحاباً كبيراً من الحرب الدموية التي بدأت بخوضها رفقة السعودية مطلع عام 2015، وأدّت إلى واحدة من أسوأ الكوارث السياسية والإنسانية في العالم خلال السنوات الماضية. بعد ذلك بفترة وجيزة، خرجت إلى العلن تفاصيل اتصالات مباشرة بين المسؤولين الإماراتيين والإيرانيين، فضلاً عن تسريبات بشأن اتصالات مماثلة بين أبوظبي والحوثيين، لتتوالى المؤشرات التي تشير إلى تحوّل جزئي في سياسة الإمارات في المنطقة، يمكن رصد سببه الأول والعريض في تأكد حكام أبوظبي بأن أميركا لن تواجه إيران عسكرياً، وبالتالي فإن كل سياساتهم القائمة على حسابات التخلص من طهران فاشلة، ولا بد من إعادة النظر فيها، وهو ما من شأنه أن ينعكس على علاقة أبوظبي وطهران، وارتباط الإمارات بملفات عديدة، من اليمن إلى لبنان والعراق مثلاً.

التبريرات التي صاغتها الإمارات لانسحابها الجزئي من اليمن والمتمثلة بتبني استراتيجية بناء السلام، وعودة الاتصالات المباشرة مع إيران التي عزتها إلى مناقشة أمور الصيد في خضم التوتر في الخليج وأزمة استهداف واحتجاز ناقلات النفط، لم تبدُ مقنعة لأحد، إذ إنّ الاستدارة الإماراتية جاءت في وقت أثبتت فيه الحرب في اليمن بعد أكثر من 4 سنوات فشل خيار التدخل العسكري المباشر وكلفته المرتفعة، ليس فقط عسكرياً، بل سياسياً واقتصادياً أيضاً. والأهم من ذلك أنّ الإمارات توصّلت إلى استنتاج مفاده أنه بما أنّ الإدارة الأميركية الحالية، وعلى الرغم من ذهابها باتجاه سياسة الضغوط القصوى ضدّ إيران، إلا أنّها لن تمضي في خيار مواجهة الأخيرة عسكرياً، خصوصاً بعدما اختارت طهران المواجهة غير المباشرة مع واشنطن في مضيق هرمز. حتى أنّ محاولة الولايات المتحدة بناء تحالف دولي لتأمين الملاحة البحرية يصطدم بعقبات عدة. وبالتالي، فإنّ الإمارات التي شهدت خلال السنوات الماضية توسعاً في دورها الإقليمي مستفيدة من ثروتها، حتى باتت تجاهر بعدائها لثورات الشعوب وتعمل على إجهاضها، ولا تتوانى عن التدخل العسكري المباشر، وجدت نفسها في مأزق، خصوصاً أنّ المواجهة هذه المرة مع إيران، ومن خلفها الحوثيين، باتت على مقربة من أراضيها، ويمكن أن تتوسع إلى داخلها، وهو ما يعني تعرّض مصالحها الاقتصادية، والتي تشكل رافعة لنفوذها السياسي، للخطر. الأمر الذي جعل خياراتها محدودة لتبدأ النتائج في الظهور في اليمن وبالاتصالات مع إيران، فيما لا تزال حدود تأثير التحوّل في السياسة الإماراتية على باقي الملفات التي تتدخل فيها غير معروف.

أكذوبة السلام أولاً

تبرير أبوظبي "الرسمي" لخطوة الانسحاب من اليمن جاء من خلال مسؤول إماراتي تحدث لوكالة "فرانس برس"، لكن من دون الكشف عن اسمه، قائلاً إنّ الانسحاب "جاء لأسباب استراتيجية في مدينة الحديدة، غرب البلاد، وأسباب تكتيكية في باقي المناطق التي توجد فيها القوات الإماراتية". ويقول الإماراتيون إنّهم يريدون الانتقال من "الاستراتيجية العسكرية الأولى إلى الاستراتيجية الأولى للسلام"، وهو ما حاول الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، الذي يعمل كمستشار لولي العهد محمد بن زايد، تأكيده حينما قال إنّ "الحرب في اليمن انتهت إماراتياً وبقي أن تتوقف رسمياً"، مضيفاً أنّ بلاده ستضع كل ثقلها الدبلوماسي في عملية السلام.

لكن الانسحاب الإماراتي من اليمن لا يأتي من منطلق عملية السلام التي لم تكن الإمارات متحمسة لها، وما يجري من محاولة تمرّد جديدة في عدن في الأيام الأخيرة من خلال تصعيد يقوده نائب رئيس ما يسمى بالمجلس الانتقالي الانفصالي هاني بن بريك، والذي يعد ذراع ولي عهد أبوظبي في اليمن، يدلّ على عدم صحة الإعلان الإماراتي، إلا إذا كان بن بريك يخوض مغامرة فردية بقرار غير مرتبط بأبوظبي. مع العلم أنّ الإمارات حرصت على بناء جيش من المليشيات خاضع لها في أغلب المحافظات الجنوبية بما يمكّنها من الحفاظ على نفوذ ودور في عدم الاستقرار لسنوات طويلة. وتدلّ مختلف الوقائع على الأرض أنّ أبوظبي لم تكن تعترف أصلاً بفكرة السلام إلا بالحدود التي تمسّ مصالحها، وهو ما تمثل في مفاوضات استوكهولم في ديسمبر/ كانون الأوّل الماضي، والتي كان "ميناء الحديدة" الذي يهم الإمارات أحد بنودها الرئيسية. لذا، فإنّ الانسحاب عملياً هو اعتراف بالأمر الواقع، وعجز عسكري وسياسي داخل اليمن.

لم تشترك الإمارات بحماسة في مفاوضات السلام بين الحكومة اليمنية الشرعية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والحكومة السعودية، وبين ميلشيات الحوثيين، بل إنّها لم تكن مهتمة بمناطق الصراع في شمال اليمن، والتي تمثل القاعدة الأساسية لهذه المليشيات، وهي ذاتها المناطق المحاذية للحدود السعودية. حتى أنّها لم ترسل قواتها إلى هناك لمساندة الرياض في وقف الهجمات العنيفة التي تشنها جماعة "أنصار الله" على المدن الحدودية السعودية.

ولا يمثل الانسحاب من اليمن هزيمة للإمارات بقدر ما يُعتبر إعادة ترتيب لملفاتها داخل هذا البلد، ومحاولة لتحسين موقفها الدبلوماسي في ظلّ الصراع الأميركي – الإيراني في المنطقة، والذي قد يشكّل تهديداً خطراً عليها. فعندما شعرت أبوظبي بخطورة التهديد الذي تواجهه، بدأت محادثات مباشرة مع الإيرانيين، سرّبت وسائل إعلام إيرانية أنباء عنها قبل أن تتنقل إلى العلن. فقد زار وفد إماراتي طهران عقب الانسحاب من اليمن وتناقش مع المسؤولين هناك في عدد من الملفات السياسية المهمة. لكن الإماراتيين قالوا إنه كان نقاشاً على "مناطق الصيد البحرية" فقط، على الرغم من أنّ وفدهم اشتمل على شخصيات سياسية مهمة.

كما ترافق ذلك مع إعلان نائب الأمين لـ"حزب الله" اللبناني، نعيم قاسم، في الفترة نفسها، عن تواصل بين الإماراتيين والحوثيين قبل أن يخرج القيادي في الجماعة، محمد البخيتي، ليعلن أنّ جماعته قررت تجميد استهداف أبوظبي، ليكتمل بذلك جزء من الصورة التي كانت محجوبة بشأن كواليس القرار الإماراتي والتفاهمات التي بدأت تخرج للعلن بين أبوظبي وطهران من جهة، والحوثيين من جهة أخرى.

كذلك، تعدّ محاولة وقف الهجمات التي تشنها ميلشيات الحوثي بالطائرات المسيرة والصواريخ البالستية على المصالح الإماراتية أحد الأسباب الرئيسية لإعلان أبوظبي انسحابها الكبير من اليمن. إذ تعرض مطار دبي للقصف مرتين على الأقل بطائرات مليشيات الحوثي المسيرة، والتي شهدت تطوراً تقنياً كبيراً خلال الأشهر الأخيرة، ما جعل القادة الإماراتيين يتخوفون من أن يصل مدى الصواريخ والطائرات إلى قلب العاصمة دبي، وهو ما يعني تدمير اقتصاد الإمارة التي تتعرض أصلاً لصعوبات اقتصادية جمة بسبب استنزافها في الحرب على اليمن وحصار قطر.

وعلى عكس السعودية، فإنّ الإمارات لا تستطيع امتصاص الضربات الصاروخية على مدنها، كونها مدناً استثمارية قوتها الاقتصادية مرتبطة بثقة المستثمرين فيها، كما قال خبير سياسي سعودي، فضل عدم الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد". وأوضح الخبير السياسي الذي عمل كمستشار سابق للحكومة السعودية قبل أن يرحل إلى خارج البلاد، أنّ "السعودية تملك قدرة كبيرة على التعامل مع الهجمات الصاروخية كون غالبية سكانها من المواطنين الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبوا إليه، إضافة إلى أنّ غالبية الهجمات تستهدف المناطق الحدودية النائية، مثل نجران وجيزان والتي تعوّد سكانها على الحرب، بعكس سكان دبي وأبوظبي من موظفي البنوك ورجال الأعمال الأجانب".

وسيترك رحيل القوات الإماراتية فراغاً كبيراً، خصوصاً في المناطق الاستراتيجية التي انسحب منها الإماراتيون بشكل مفاجئ، وطالبوا القوات السعودية بحمايتها، حيث انسحبوا من القواعد العسكرية في ميناءي المخا والخوخة. كما ستتعرض السعودية لمزيد من الإرهاق العسكري والنزيف الاقتصادي، إضافة إلى النقد السياسي العالمي والحقوقي المتواصل بحقها، بسبب ما وصف بأنه ارتكاب للمجازر بحق المدنيين أثناء القصف الجوي والمدفعي على اليمن.

وستؤدي خطوة انسحاب الإمارات إلى تركز الانتقادات المتعلقة بجوانب حقوق الإنسان والانتهاكات المريعة التي كانت تقوم بها القوات الإماراتية عبر بناء السجون السرية وعمليات التعذيب الممنهجة في جنوب اليمن، على السعودية. وحاول مسؤولون بارزون في الديوان الملكي، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، ثني أبوظبي عن قرار الانسحاب، كونهم يعلمون أنّ ذلك سيمثل ضربة موجعة للرياض على الأصعدة كافة.

حروب عبر الوكلاء

من جهة ثانية، سيؤدي الانسحاب الإماراتي من اليمن وإلقاء حِمل هذا الملف على السعودية، إلى تفرغ أبوظبي للجبهات التي تحارب فيها عبر وكلائها، أو تسعى لإشعالها سياسياً وعسكرياً، وأبرزها ليبيا والسودان، وإن كان البعض يتوقّع تراجعاً لدورها الإقليمي الحاد والمعادي للثورات والديمقراطيات. وتشكّل ليبيا فرصة كبيرة للإمارات لإعادة هيبتها العسكرية والسياسية عبر دعم اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر وميلشياته، في محاولاته الحثيثة للسيطرة على العاصمة طرابلس والانقلاب على الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، المتواصلة منذ إبريل/ نيسان الماضي وتعرّضت للفشل أكثر من مرة.

ولم تكن المشاركة الإماراتية بالحرب الليبية طوال الفترة الماضية شبيهة بالحرب اليمنية، ولا يتوقّع أن يتغيّر الأمر في المرحلة المقبلة، إذ تعلّمت أبوظبي الدرس جيداً بشأن عدم خوض أي حرب بقواتها، إضافة إلى عدم خوض أي حرب على حدودها. الإمارات، وبحسب الكثير من الوقائع التي كُشفت، تدعم قوات حفتر بالمال والسلاح وتؤمن له غطاء دولياً عند بعض القوى الإقليمية، بدون أي كلفة سياسية أو اقتصادية باهظة، وبدون إضرار بسمعتها الدبلوماسية على نحو واسع، مقارنة بما لحق بها جراء حرب اليمن التي شوّهت صورتها لدى الدوائر الغربية، خصوصاً أنها تعتمد على السياحة وجلب الاستثمارات ورؤوس الأموال الغربية.

أمّا في السودان، فإنّ الإماراتيين يستخدمون الدعم السياسي والمالي للمجلس العسكري الانتقالي لتثبيت سلطته والحدّ من تصاعد قوة المنظمات المدنية والأحزاب السياسية التي تحاول التوصّل إلى حلّ ديمقراطي في البلاد. ولن تكون الكلفة في السودان كبيرة جداً مقارنة بليبيا، إذ إنّ الدعم المالي وتوفير الغطاء السياسي وتوظيف رجال السياسة الغربيين الذين يمتلكون علاقات جيدة مع أبوظبي يكفي بالنسبة لها.

وفي المجمل العام، فإنّ الانسحاب العسكري الإماراتي من اليمن يمثّل إعادة ترتيب أبوظبي لأوراقها في المنطقة، وحدّاً من الخيارات العسكرية التي اندفعت إليها، وأثبتت فشل الإمارات كقوة عسكرية، بسبب صغر مساحتها وقلة عدد جيشها على الرغم من تدريبه الجيد. هذا فضلاً عن تململ الإماراتيين من إرسال أبنائهم ذوي التعليم الجيد والدخل المرتفع، إلى ساحات الحرب في اليمن. لكن هذا الانسحاب لا يعني تخلي أبوظبي عن طموحاتها الإقليمية في سبيل الهيمنة والسيطرة على أكبر قدر ممكن من صناعة القرار في الوطن العربي، وهو ما يعني أنّ المرحلة المقبلة ستشهد نوعاً آخر من التدخلات الإماراتية.