رحيل الشيوعي نديم عبد الصمد: تاريخ عربي بلا مذكرات

رحيل الشيوعي نديم عبد الصمد: تاريخ عربي بلا مذكرات

28 اغسطس 2019
يوارى عبد الصمد الثرى يوم الجمعة (فيسبوك)
+ الخط -
نادراً ما حصل إجماع في لبنان، حيث تكثر التوافقات الكاذبة وتندر الإجماعات الصادقة، على احترام شخصية عامة، كذلك الذي حظي به طيلة سنواته الـ87، نديم عبد الصمد، القيادي الشيوعي العروبي الراحل، فجر الأربعاء 28 أغسطس/آب، في منزله البيروتي، الذي رفض مغادرته إلى المستشفى في الفترة الأخيرة من اشتداد أمراضه الكثيرة. أمراض لم تؤثر لحظة على وعيه الذي حافظ على نضارته حتى انطفاء جسده، رغم تعبه ورغبته بالرحيل ليتخلص من أوجاع الكلى والقلب وبقية صنوف علامات التقدم في السنّ.

يصعب تحديد نقطة انطلاق لتعريف عبد الصمد، أبو بشار، إلى قارئ لا يعرف عنه شيئاً.

باختصار، هو قيادي سياسي من الصنف غير النمطي. مناضل عنيد وقاسٍ على نفسه فقط، في مراجعاته لسلوكه في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، والحركة الوطنية، والثورة الفلسطينية، وأيام المهمات في اليمن الجنوبي، ثم في حركة اليسار الديمقراطي، التي ترأّسها لدى تأسيسها عام 2004، إيماناً منه بإمكانية تزاوج اليسار مع الديمقراطية، وعدم التناقض بين مناهضة إسرائيل ورفض بقاء النظام السوري جاثماً على سورية وعلى لبنان. حصل ذلك طبعاً بعدما غادر صفوف حزبه الذي تسلمته قيادة موالية للنظام السوري ولـ"حزب الله". السياسة عنده نضال شخصي بدايةً، وانخراط على حساب العائلة التي لا بد لها أن تتورط فيه هي كذلك، وهو ما حصل فعلياً مع أفراد عائلته الصغيرة.

نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني سابقاً، ورئيس المجلس الوطني للحزب سابقاً أيضاً، ابن قرية عمّاطور في قلب الشوف اللبناني (شرق بيروت)، ارتبط اسمه على الأقل طيلة نصف قرن، بكل من الحزب الشيوعي، وبفلسطين، وبمقاومة إسرائيل، وبحلم تصدير الاشتراكية عربياً، تحديداً إلى اليمن الجنوبي، وهي تجربة (اليمن) كانت فاشلة، وقد وثقها فواز طرابلسي، صديق أبو بشار، في كتبه العديدة عن تلك المرحلة المشتركة مع عبد الصمد، طرابلسي انطلاقاً من موقعه كنائب الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، وعبد الصمد نيابة عن الحزب الشيوعي.

عبد الصمد وإلى يمينه فواز طرابلسي (من أرشيف فواز طرابلسي) 

لم يتعب أبو بشار إلا عندما أصبح عاجزاً جسدياً، رغم أنه كان لديه ألف سبب ليقرف من كل ما يتعلق بالشأن العام. خسر الرجل الآلاف من رفاقه ومن أصدقائه الشخصيين، أكان بميتة

طبيعية أو بالتصفية، من ياسر عرفات، وبقية رموز الثورة الفلسطينية، إلى جورج حاوي، وكمال جنبلاط، وسمير قصير، وجورج البطل. هؤلاء عينة من أصدقاء الرجل الذي ساهم في شبابه بشكل فعال جداً بما يسمى في أدبيات الشيوعيين اللبنانيين والعرب بـ"انتفاضة 1968" الخاصة بالحزب اللبناني، حين قامت مجموعة من الشيوعيين الشباب في حينها، خلال المؤتمر الوطني الثاني للحزب، بما يشبه انقلاباً على القيادة السوفييتية العجوز للحزب، فبرزت أسماء جورج حاوي، وكريم مروة، ونديم عبد الصمد، وجورج البطل، وغيرهم، على حساب صوايا صوايا وحسن قريطم وأرتين مادويان. وتولت المجموعة الشابة في حينها، بـ"التواطؤ" (بمعناه الإيجابي) مع نقولا الشاوي (أبو زهير)، لتتسلم "السلطة" الحزبية، وتنخرط في خيارات غير شعبية بالنسبة للقيادة السوفييتية في حينها، في عناوين عديدة، من بينها ما يتعلق بالاحتلال وبالقضية الفلسطينية، في ظل وجود تيار، في حينها، من الشيوعيين العرب ممن كانوا يعتبرون إسرائيل "حالة تقدمية وسط شرق متخلف".
ظل نديم عبد الصمد، حتى وفاته، بالنسبة لطيف واسع جداً من اللبنانيين، حتى من خصومه، بمثابة شخصية تاريخية نزيهة لم يسبق أن رُبط اسمها، ولو تلميحاً، بأي ملف فساد، رغم أنه كان فاعلاً جداً في الحرب الأهلية اللبنانية في مختلف محطاتها، وهي حرب كانت جنّة للفساد وللفاسدين. كما ظل شخصية "غير إعلامية".


من عرفه عن قرب، يدرك كم كان شاباً بعمر السبعين والثمانين، فتراه يتحمّس لأي مبادرة يقتنع بها. حتى في مايو/أيار 2018، أصرّ على مخالفة آراء أطبائه وعائلته وذهب إلى قريته البعيدة عن بيروت، ليدلي بصوته في الانتخابات النيابية وقبلها في الاقتراع البلدي، ليصبح حلول نديم عبد الصمد في عمّاطور، بحد ذاته، حدثاً في الجبل.

رحل عبد الصمد من دون أن يكتب مذكراته الممتلئة بالنكسات والإنجازات والمآسي والتعب. عاد بشكل نهائي إلى مسقط رأسه، لكن في تابوت، حيث يدفن يوم الجمعة، بحضور سياسي وشعبي يتوقع أن يكون حاشداً. هناك، سيلتقي مئات الرفاق الذي تباعدوا سياسياً وشخصياً، ولم يكن ممكناً أن يلتقوا إلا في مناسبة رحيل أبو بشار، وليتساءلوا: كيف أمكن لحزب أنجب أشخاصاً مثل نديم عبد الصمد أن ينتهي حاله إلى ما هو عليه اليوم؟

المساهمون