خطاب باسيل الشعبوي: لعب بالنار يعجّل بوفاة "الطائف"

خطاب باسيل الشعبوي: لعب بالنار يعجّل بوفاة "الطائف"

02 اغسطس 2019
لم يتمّ توظيف الناجحين بعد (حسين بيضون)
+ الخط -
نادراً ما اجتمعت الطبقة السياسية اللبنانية على موقف موحّد في نظرتها إلى سياسي معيّن. هذه المرة يبدو الدور لوزير الخارجية والمغتربين، رئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل. مكمن هذا الإجماع يتمحور حول النظر إلى مواقفه وسياساته بوصفها خطراً على لبنان، ومقدمة إلى جر البلاد بالحد الأدنى إلى صراعات سياسية، تمهيداً لإعادة النظر في شكل المحاصصات القائمة منذ اتفاق الطائف (1989)، إن لم يكن أزمات أمنية، يقال في لبنان إنها باتت من الماضي بفعل التعلم من تجربة الحرب اللبنانية الأهلية (1975 ـ 1990). يُقدّم باسيل خطاباً شعبوياً مسيحياً يحاول عبره تصوير نفسه حامياً للمسيحيين وحقوقهم في اللعبة اللبنانية. ينقسم خطابه إلى شقين، شق عنصري متعلق باللاجئين، بات معروفاً به، وشق طائفي، نجح من خلاله بربط وتعطيل الكثير من التعيينات في إدارات الدولة بحجة الإخلال بالتوازن الطائفي أو المناصفة التي تحدّث عنها اتفاق الطائف. ويعتبر باسيل أنها يجب أن تسري على كل التعيينات، فيما يقول من عاصر اتفاق الطائف، والكثير من القانونيين، إن الطائف تحدث عن مناصفة في مجلس النواب وفي الفئات الأولى في إدارات الدولة حصراً.


منذ العام 2016 نجح باسيل في تعطيل التحاق الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية بوظائفهم بحجة الإخلال بالتوازن الطائفي في وظائف الإدارات العامة. احتج هؤلاء، واعترضوا، وتظاهروا، لكن باسيل تمسك بخطابه، وصولاً إلى عرقلة إصدار الموازنة أخيراً بسبب المادة 80 التي تحفظ حق هؤلاء في الالتحاق بإداراتهم. صباح يوم الأربعاء وقّع رئيس الجمهورية ميشال عون قانون الموازنة بعد أيام من الخلافات بسببها، بعد أن دعا باسيل إلى وجوب الالتزام بحذف المادة 80، بحجة أنها أضيفت في مناقشات لجنة المال والموازنة التي يرأسها النائب إبراهيم كنعان، على الرغم من أن الأخير هو أمين سر تكتل "لبنان القوي"، التابع لـ"التيار الوطني الحر".

وقّع رئيس الجمهورية على الموازنة ولم يردها أو يطعن فيها، على الرغم من حديث فريقه السياسي عن خلل يشوب المادة 80 منها، إلا أنه في المقابل طلب في رسالة إلى مجلس النواب تفسير المادة 95 من الدستور، محط الخلاف الرئيسي، والتي تتحدث عن المناصفة. تقول المادة 95 من الدستور إن "على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بین المسلمین والمسیحیین اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السیاسیة وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئیس الجمهوریة، تضم بالإضافة إلى رئیس مجلس النواب ورئیس مجلس الوزراء شخصیات سیاسیة وفكریة واجتماعیة. مهمة الهيئة هي دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفیذ الخطة المرحلية. وفي المرحلة الانتقالية: أ- تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكیل الوزارة. ب- تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي ویُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فیها، وفي ما یعادل الفئة الأولى فیها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بین المسیحیین والمسلمین، من دون تخصیص أیة وظیفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة".

ليست المرة الأولى التي يعاد فيها الحديث عن الطائف والمحاصصات والنظام بشكل عام. نجح باسيل في السنوات الأخيرة في جر البلاد إلى نقاش عام مراراً، ودفع كثر إلى خانة الاصطفافات المقابلة. قبل سنوات فُتح النقاش ذاته عندما طرح باسيل قانوناً للانتخابات عام 2017، يتحدث عن انتخاب المسيحيين لنوابهم والمسلمين لنوابهم. سقط اقتراحه بفعل المعارضة الكبيرة له، غير أنه أعيد فتحه لاحقاً مع تأليف الحكومة والحديث عن صلاحيات رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة.

يُجمع أكثر من مصدر نيابي محسوب على قوى "8 آذار"، وكذلك على قوى "14 آذار"، وفق الاصطفافات السابقة، على اعتبار خطاب باسيل وسياساته خطراً على لبنان، وتحديداً على المسيحيين، لأنه مقدمة لدفع الطوائف إلى تبنّي خطاب أكثر حدّة بشأن المعادلة اللبنانية. وهو ما برز في رد عضو كتلة "المستقبل" النائب سمير الجسر على موقف باسيل من المادة 80 في الموازنة، متحدثاً عن ابتزاز واستفزاز وتعالٍ وفئوية في مواقف باسيل "لن تأتي إلا بالشر على لبنان"، داعياً إياه إلى "التعقّل قبل أن تدفع البلد في طريق لا تحمد عقباه. لقد نفد صبرنا".



أن يخرج هذا الموقف عن الجسر تحديداً فهو أمر يدعو إلى التأمل في لبنان، خصوصاً أن الجسر وتيار "المستقبل" معروف عنهما المواقف الداعمة لصيغة المناصفة، لا سيما أن التيار يعتبر نفسه عراب الطائف، نظراً إلى الدور الذي لعبه مؤسسه رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في اتفاق الطائف.

عملياً نجح "التيار الوطني الحر" مراراً في إحراج تيار "المستقبل" وإخراجه عن ثوابته، خصوصاً في مراحل الحديث عن صلاحيات رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، وقبلها عن الحصص النيابية، في ظل تنامي الخطاب الداعي إلى النظر في المناصفة. وربما هنا يكمن الخطر الحقيقي في خطاب باسيل الذي تحدث عنه الجسر، ويقال في الأروقة السياسية اللبنانية، إن تيار "المستقبل" لم يعد قادراً على الترويج للتمسك بالطائف والمناصفة ضمن بيئته السنّية، التي تتحدث عن تهميش لها في المعادلة اللبنانية، وفق مصادر قيادية في تيار "المستقبل"، وتالياً يجر باسيل البلاد إلى الحديث عن نظام جديد، ومؤتمر تأسيسي طرحه سابقاً وقبل سنوات الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله.

في الأزمة الأخيرة وقف الثنائي الشيعي، "حزب الله" وحركة "أمل"، ضد باسيل. حتّمت المصالح الشعبية ووجود الكثير من الأسماء المحسوبة على الثنائي الشيعي ضمن لائحة الأسماء الفائزة في امتحانات مجلس الخدمة، الوقوف في وجه باسيل، وضد رفضه حفظ حقوق هؤلاء في الالتحاق بعملهم. لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن خطاب باسيل عموماً لا يخدم سوى "حزب الله" وطروحاته المتعلقة بالمؤتمر التأسيسي، وبصيغة المثالثة (بين السنّة والشيعة والمسيحيين) بدل المناصفة (بين المسلمين والمسيحيين) التي نفى نصرالله يوماً طرحه لها.

بالتزامن مع الكباش المتعلق بالمحاصصة الطائفية، برزت إحصائية لـ"الدولية للمعلومات" تتحدث عن أعداد الطوائف، أدت إلى صب الزيت على النار، خصوصاً أنه في لبنان لم يحصل أي إحصاء رسمي منذ العام 1932. وأبرزت الإحصائية واقع تراجع أعداد المسيحيين في لبنان، مشيرة إلى أن عدد اللبنانيين بلغ 5.5 ملايين نسمة في نهاية العام 2018، منهم 30.6 في المائة من المسيحيين و69.4 في المائة من المسلمين. وباتت الطائفة الشيعية تُشكّل 31.6 في المائة من سكان لبنان، والطائفة السنيّة 31.3 في المائة.

يرأس "الدولية للمعلومات" جواد عدرا، الذي طُرح اسمه في مرحلة تأليف الحكومة ليكون ممثلاً للنواب السنّة المحسوبين على قوى "8 آذار"، ويقال في لبنان إنه مقرب من رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يقف على مسافة من باسيل و"التيار الوطني الحر"، ولطالما شهدت البلاد صراعات بينهما، على الرغم من تحالف كل منهما مع "حزب الله". عموماً وصلت الرسالة من إحصائية عدرا، ورد عليها لاحقاً باسيل ملوحاً بـ"خيارات أخرى كلها وطنية تحافظ على هذا البلد" في مقابل "التهديد بالعدّ".

لكن في المقلب الآخر ثمة خشية رئيسية متعلقة بنجاح باسيل في التسويق لخطابه الطائفي، وعدم بلورة أي طرف مسيحي لخطاب مضاد، نظراً لشعبوية خطاب باسيل، على الرغم مما يشكّله من خطر على المسيحيين، وفق ما تقول شخصية مسيحية مستقلة كانت منضوية في عداد تحالف قوى "14 آذار". ومردّ القلق هذا يكمن في جرّ المسيحيين إلى معارك لن يكونوا فيها الطرف الأقوى، خصوصاً أن المناصفة تعتبر أفضل الممكن مسيحياً، والأجدى لتكريس الحضور المسيحي في لبنان والعمل على بناء دولة مدنية فعلية، وليس تأجيج نار الطائفية، تمهيداً لصيغ جديدة لا يمكن أن يخرج منها المسيحيون بانتصار، خصوصاً أن صيغة المثالثة تعزز موقعي السنّة والشيعة على حساب المسيحيين، فيما المطلوب دولة مدنية تحفظ الجميع، وتكون عبر رافعة مسيحية لا تزال حتى الساعة غائبة.