قمة بوتين-أردوغان: رسم خارطة النفوذ وخطوط التماس في سورية

قمة بوتين - أردوغان اليوم: رسم خارطة النفوذ وخطوط التماس في سورية

22 أكتوبر 2019
ستلعب قمة بوتين أردوغان دوراً مهماً في مسار الحل(Getty)
+ الخط -
من المنتظر أن تشكل القمة المنتظرة اليوم بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان علامة فارقة في تحديد مستقبل سورية. ويبحث الزعيمان في رسم حدود مناطق النفوذ بعد الانسحاب الأميركي من شمال وشمال شرقي سورية، ومستقبل التسوية السياسية في ضوء الواقع الميداني الجديد، الذي تتقاسم فيه روسيا وتركيا، مباشرة أو عبر وكلاء، معظم الجغرافيا السورية.

وتشي المواقف المعلنة للطرفين، ومعرفتهما العميقة لحدود ومحددات كل منهما، بأن الزعيمين سيتوصلان، في سوتشي، كما في مرات سابقة، إلى تفاهمات تضمن توزيع "تركة" "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) بعد تخلي الرئيس الأميركي دونالد ترامب عنها والبدء بسحب القوات الأميركية من شرقي الفرات ومنبج، غربي نهر الفرات، ليترك تحديد مصير المنطقة لكل من موسكو وأنقرة. 

واستبق أردوغان، أمس الإثنين، القمة بالقول "سأبحث مع الرئيس بوتين مستجدات الأوضاع في سورية، وبعدها سنُقدم على الخطوات اللازمة". أما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فاعتبر، أمس، في مؤتمر صحافي مع نظيرته البلغارية إيكترينا زاهاريفا، أن موقف موسكو ثابت وهو رفض وجود أي تشكيل عسكري مسلح غير شرعي على الأراضي السورية. وفيما أكد أن موسكو مستعدة للقيام بدور داعم لتشجيع الاتصالات المباشرة بين أنقرة والنظام السوري وبين الأكراد والنظام، شدد على أن الحوار بين تركيا ونظام الأسد يجب أن يستند إلى اتفاق أضنة لعام 1998 (الذي يجيز لتركيا التوغل عسكرياً داخل الحدود السورية حتى عمق 5 كيلومترات في حال إخفاق الجانب السوري في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية المنصوص عليها في الاتفاق). وأشار إلى أن "موسكو تدعم كذلك إدخال تغييرات على اتفاقية أضنة إذا رغبت أنقرة ودمشق في ذلك".



ومن المؤكد أن الانسحاب الأميركي من سورية يصب في مصلحة الجانب التركي، خصوصاً بعد العملية العسكرية التي مكنتها من السيطرة على مساحات واسعة على الشريط الحدودي مع سورية، بين تل أبيض ورأس العين، من دون تعرضها لعقوبات أميركية، أو صدام مباشر مع الحليف الأميركي في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وبعد سنوات من ربط تركيا مشاركتها بالحرب على تنظيم "داعش" داخل سورية بمحاربة "وحدات حماية الشعب" الكردية، المكون الأساسي في "قسد"، وحزب العمال الكردستاني، فتح ضوء ترامب الأخضر المجال لها لشن عملية لتحييد عناصر هذه التنظيمات، وإبعادها بعد إضعافها.

في المقابل، استطاعت موسكو تأمين عودة النظام إلى منبج ومناطق في شرق الفرات بعد سنوات من سيطرة القوات الكردية عليها، بعد انتهاء الخط الأحمر الأميركي من دون إراقة قطرة دماء واحدة. وأدى الدبلوماسيون والعسكريون الروس دوراً مهماً في مفاوضات الأكراد مع النظام في دمشق وقاعدة حميميم من أجل صوغ تفاهمات بين الطرفين بعد العملية العسكرية التركية. وفي حين لم تستطع إيران، الشريك الثالث في عملية أستانة، اقتطاع بعض الأجزاء في شرق الفرات، فإن الانسحاب الأميركي، وعودة النظام ودخول الضامن الروسي، وانتهاء سيطرة "قسد" على مناطق واسعة، يصب أيضاً في مصلحتها، نظراً لمخاوفها من أن يشجع حصول الأكراد على فيدرالية أو كيان في سورية مواطنيها الأكراد على استئناف كفاحهم من أجل حقوقهم.




ويفتح الانسحاب الأميركي الباب للوصول إلى تفاهمات جديدة بين البلدين لملء الفراغ في شمال وشمال شرقي سورية، ورسم خطوط تماس جديدة بين النظام وتركيا، بانتظار تفصيل الحل السياسي لإنهاء الأزمة المستمرة منذ 2011. وتنطلق موسكو من ضرورة المحافظة على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وعدم الإضرار بالتسوية السياسية، ومنع أي تصادم بين قوات النظام والقوات التركية، مع ضمان عدم فرار مقاتلي "داعش" المحتجزين في سجون "قسد". وتتوافق موسكو مع أنقرة على عدم جواز تأسيس كيان انفصالي للأكراد. وفي السنتين الأخيرتين اتهمت الأميركيين مراراً بأنهم يشجعون طرفاً انفصالياً في شرق الفرات ومنبج. وتجنب المسؤولون الروس إدانة العملية العسكرية التركية في سورية، وأكدوا أن موسكو تتفهم مخاوف أنقرة بشأن أمنها، وحساسيتها من تأسيس فيدرالية أو كيان انفصالي في شرق الفرات، وأنها تسعى إلى تبديد هذه المخاوف، وفي الوقت ذاته المحافظة على وحدة سورية واستمرار التسوية. وترى روسيا أن أفضل الحلول يكمن في العودة إلى اتفاق أضنة الحدودي الموقع بين تركيا وسورية في العام 1998 مع بعض التعديلات.

ويرى خبراء أن موسكو لن تعارض إنشاء منطقة آمنة شرق الفرات، لكن النقاش سيدور حول حدود هذه المنطقة، وانتشار قوات النظام في بعض المناطق التي انسحبت منها القوات الأميركية. وتسعى موسكو إلى أن تكون هذه المنطقة بين تل أبيض ورأس العين، وبعمق يراوح بين 28 و30 كيلومتراً، على أن يشكل طريق "إم 4" الواصل إلى الحسكة، والذي يمر ببعض المدن الاستراتيجية، خط تماس جديداً بين القوات التركية وقوات النظام. وفي ما يخص منبج وعين العرب (كوباني)، يرى مراقبون أن البلدين قادران على الوصول إلى حلول توافقية بينهما، من دون إثارة الرأي العام الغربي نظراً لأهمية المدينتين الرمزية في محاربة "داعش". ويرجح أن تعود قوات النظام السوري إليهما مع وجود روسي لأعمال الدوريات والمراقبة على الخطوط بين مناطق "درع الفرات" وقوات النظام في منبج، غربي الفرات، بعد انسحاب "وحدات حماية الشعب" الكردية، ومن عين العرب (كوباني) والمنطقة الآمنة، إضافة إلى عودة النظام بالكامل إلى مركز مدينتي الحسكة والقامشلي.


محددات تركية

ومنذ بداية الثورة السلمية على نظام الرئيس بشار الأسد منتصف مارس/ آذار الماضي، وتحولها لاحقاً إلى العسكرة، ومن ثم ساحة لحروب بالوكالة، تبدلت المواقف التركية. ومع بناء الطرفين علاقات مميزة على الصعد السياسية والاقتصادية، والعلاقات الشخصية بين زعيمي البلدين، ورغبة أنقرة في أن تكون دمشق بوابتها إلى الخليج العربي، وقاعدة لبناء اتحاد اقتصادي مع العراق وإيران، سعى أردوغان إلى محاولة إقناع الأسد بإجراء بعض الإصلاحات تلبية لمطالب المحتجين وأوفد وزير خارجيته وقتها، صاحب نظرية "تصفير المشاكل"ـ أحمد داود أوغلو، إلى الأسد، الذي استقبل المبادرة ببرود، لتنتقل الأمور لاحقاً إلى عداء مكشوف بين الطرفين، حمل فيه النظام السوري تركيا الجزء الأكبر من "المؤامرة الكونية" لإسقاطه، وعملت أنقرة على دعم المعارضات السياسية والعسكرية من أجل إسقاط الأسد.

ومع انتقال القتال إلى الشمال السوري، تم تجاوز "خطوط أردوغان الحمر" بعدم السماح بتدمير حمص وحماة وغيرها. ومع تعاظم قوة الأكراد، باتت الأزمة السورية موضوعاً داخلياً تركياً بامتياز، مع وجود حدود مشتركة تتجاوز 900 كيلومتر كانت تنشط عبرها مجموعات حزب العمال الكردستاني قبل اتفاق أضنة 1998، ورفعت منسوب الخوف من تجدد الحرب التي استمرت ثلاثة عقود وحصدت حياة عشرات الآلاف من الطرفين. وأجج انسحاب النظام وتسليم بعض المناطق للأكراد، والدعم الأميركي لـ"قسد" لاحقاً مخاوف تركيا من أن يستطيع الأكراد الانفصال عن سورية، أو تأسيس حكم ذاتي يضم التجمعات الرئيسية الثلاثة للأكراد في شمال وشمال شرقي سورية، ما قد يذكي أيضاً مشاعر الانفصال في 19 ولاية في جنوب وجنوب شرق تركيا تقطنها غالبية كردية، ويشعل حرباً جديدة.

فوبيا "الثورات الملونة"

الموقف الروسي، هو الآخر، شهد تغيرات كبيرة في ما يخص التعامل مع الأوضاع في سورية، وشهد منحى تصاعدياً في التحول من تبني رواية النظام للأحداث ودعمه دبلوماسياً وسياسياً، وصولاً إلى التدخل العسكري لإنقاذه، للمرة الأولى في تاريخ روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي. وبدا واضحاً أن موسكو فوجئت بثورات الشعوب العربية، وساد الارتباك مواقفها في البداية، لكن تطور الأحداث وانتقال الحراك إلى بلدان أخرى تسبب في تبدل واضح. ومع عودة بوتين إلى الكرملين لولاية ثالثة في 2012، ومخططاته لدور عالمي أكبر لبلاده في العالم، بدأت روسيا تنحو أكثر نحو التشدد، وبدأت بتوجيه الانتقادات للغرب، والحديث عن خدعة كبيرة باستغلال موافقتها على قرار مجلس الأمن 1973 الخاص بليبيا لإسقاط حليفها معمر القذافي.

وانطلقت موسكو من أن ما جرى في العالم العربي يندرج في إطار "الثورات الملونة" المدعومة من الخارج. وبدأت التحرك خوفاً من انتشار شرارة الثورات إلى بلدان آسيا الوسطى التي تتشابه ظروفها مع الأوضاع في العالم العربي من حكم دكتاتوري، وفساد مستشر، وقمع للحريات، وأوضاع اقتصادية مزرية. ومع تغليفها بشعارات من باب عدم جواز التدخل الأجنبي لقلب الأنظمة من الخارج، صعدت موسكو لهجتها وبدأت بدعم نظام الأسد، آخر حليف لها في المنطقة، خشية من صعود التيارات الإسلامية، التي تناصبها العداء تاريخياً، إلى الحكم كما حصل في بلدان أخرى، وقررت الدفاع حتى النهاية عن آخر موطئ لها في المياه الدافئة في شرق المتوسط، ما تسبب في زيادة الشقاق مع أنقرة، الذي بلغ حد القطيعة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 بعد إسقاط الجيش التركي مقاتلة روسية قرب الحدود مع سورية. لكن القطيعة لم تدم طويلاً. ونتيجة الموقف الروسي الرافض للانقلاب في تركيا على عكس الغرب، وإدراك الكرملين حقيقة الدور التركي المؤثر في سورية، وبراغماتية الطرفين ونجاحهما في فصل الملفات، والوصول إلى حلول تدريجية تراعي مصالح كل طرف وخطوطه الحمراء، فُتحت صفحة جديدة في العلاقات كان لها الدور الأبرز في ما وصلت إليه الأمور في سورية حالياً.

وعلى الرغم من اصطفاف البلدين في خندقين متقابلين منذ بداية الحراك السوري، فإن التنسيق رفيع المستوى في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية بينهما كان له التأثير الأكبر في تغير الأوضاع الميدانية، والتقدم في مسار التسوية السياسية، عبر تفاهمات، ساهم في إنجازها زعيما البلدين شخصياً. وتشارك البلدان، بعد استعادة النظام حلب، في رسم مسار أستانة منذ بداية 2017، وتشكيل مناطق خفض التصعيد التي انقلبت عليها روسيا والنظام واحدة بعد الأخرى، ما وسع مساحة سيطرة النظام إلى أكثر من 60 في المائة من الجغرافيا السورية، وحصر المعارضة المسلحة في منطقة إدلب وشمال محافظتي حماة واللاذقية. وفي المقابل شنت تركيا حملتين عسكريتين، بمساعدة الفصائل المقربة منها، في "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، ومنعت التواصل الجغرافي بين مناطق شرق الفرات وغربه، وباتت الطرف الأكثر تأثيراً على المعارضة السياسية والعسكرية السورية.

ومؤكد أن بوتين وأردوغان يدركان أن تعاون البلدين وتنسيقهما لعب دوراً حاسماً في تنفيذ مخططات كل منهما في سورية في السنوات الأخيرة، ما يدفعهما للتوصل إلى تفاهمات من أجل عدم التصادم، في محاولة كل طرف لملء الفراغ الأميركي ومراعاة الخطوط الحمراء لكل طرف. وواضح أن موسكو لن تمانع في إنشاء المنطقة الآمنة لأنها تخدم أهدافها في المرحلة المقبلة، وهي عودة اللاجئين والبدء بورشة إعادة الإعمار. ومعلوم أن أردوغان أعلن أكثر من مرة أن المنطقة الآمنة المزمع إقامتها يمكن أن تستوعب نحو مليوني سوري. ولاحقاً كشفت وسائل إعلام تركية أن المنطقة ستضم نحو 200 ألف منزل، وإنشاء أكثر من 130 قرية و10 بلدات جديدة، وتوفير بنية تحتية وخدمية لها بقيمة تصل إلى 23 مليار دولار.

كما أن العلاقات الاقتصادية والسياسية المتشعبة والمهمة للطرفين ستكون حاضرة على طاولة المباحثات بين بوتين وأردوغان في سوتشي. فقد سمحت هذه العلاقات بتقارب الطرفين، خصوصاً بعد العقوبات الغربية على روسيا في 2014، والمشكلات بين تركيا والغرب. وتعّد أنقرة من أهم شركاء موسكو التجاريين، بحجم تبادل وصل إلى 25.7 مليار دولار في العام الماضي. وتعتمد تركيا على الغاز الطبيعي الروسي لتأمين أكثر من 60 في المائة من احتياجاتها، فيما تراهن موسكو على خطوط الترانزيت الجديدة عبر تركيا لإيصال الغاز إلى أوروبا بعيداً عن جارتها أوكرانيا. ويدرك الطرفان قوة وتأثير كل منهما في آسيا الوسطى، ولا يرغبان في حصول تصادم في مصالحهما في هذه المنطقة الحيوية لهما.

وفي ضوء إدراك موسكو وأنقرة محددات كل منهما في مقاربة الوضع السوري، وعدم قدرة أي منهما على إنجازها من دون التعاون مع الطرف الآخر، فإن قمة بوتين أردوغان في سوتشي، اليوم الثلاثاء، ستلعب دوراً مهماً في مسار الحل السوري، خصوصاً أن البلدين موجودان على الأرض في آخر النقاط الخارجة عن سيطرة النظام في شرق الفرات وغربه في شمال سورية، إضافة إلى نفوذ موسكو على النظام، وتأثير أنقرة القوي على قرارات المعارضة، ما يؤسس للدفع بالمسار السياسي جنباً إلى جنب مع التحركات الميدانية على الأرض.

المساهمون