جنوب العراق "ساحة حرب": الحكومة تعزل المنطقة والضحايا يتضاعفون

جنوب العراق "ساحة حرب": الحكومة تعزل المنطقة والضحايا يتضاعفون

16 يوليو 2018
متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد (فرانس برس)
+ الخط -
نجحت الحكومة العراقية في عزل مدن جنوب العراق المنتفض على الفقر والبطالة والفساد والأحزاب الدينية، من خلال قطع شبكة الإنترنت والاتصالات الهاتفية واتباع طريقة إغلاق المدن، والدفع بما لا يقل عن 50 ألف عنصر أمن من الجيش والشرطة وقوات فضّ الشغب وثلاثة ألوية من قوات الرد السريع، وهو ما لم يحل دون اتساع إضافي للتظاهرات وتضاعف أعداد الضحايا بين قتلى وجرحى، وزيادة الضغط على حكومة حيدر العبادي الذي يواجه أكبر أزمة سياسية ــ شعبية في ولايته الحكومية، منذ سقوط الموصل بيد تنظيم "داعش".

وأناطت الحكومة حماية المنشآت النفطية وطرق ناقلات النفط والقوافل التجارية المتجهة أو الآتية من موانئ البصرة على الخليج العربي، بقوات جهاز مكافحة الإرهاب، واتخذت الإجراءات ذاتها في بغداد، إذ تم قطع شبكة الإنترنت وإيقاف الهواتف في عدد من المناطق الحساسة والمهمة بالعاصمة. ونشرت الحكومة كذلك قوات إضافية استقدمتها من محافظة صلاح الدين المجاورة، خوفاً من نجاح حراك للتيار المدني العراقي الذي يعمل هذه المرة بمعزل عن الجناح الرئيس للحزب الشيوعي العراقي، الحليف الجديد للصدريين في العراق، وذلك لتنسيق تظاهرات في بغداد تأييداً لمطالب أهل الجنوب.

وشهد اليوم الثامن من الاحتجاجات في جنوب العراق تطوراً نوعياً على مستوى الشارع وارتفاع أعداد المحتجين، وكذلك على مستوى ردّ فعل الحكومة العراقية والإجراءات التي اتخذتها، إذ قطعت جميع أشكال الاتصال عن مدن القادسية وبابل والبصرة وذي قار والمثنى وميسان وواسط وكربلاء والنجف، وألحقت بغداد وديالى بها بعد ساعات قليلة، بينما خلت جميع مدن العراق من خدمة الإنترنت، باستثناء مناطق في الأنبار والموصل وعلى نحو ضعيف.

وزجّت وزارتا الدفاع والداخلية بقوات إضافية إلى جنوب البلاد، لترتفع، وفقاً لمسؤولين في بغداد، إلى أكثر من 50 ألف عنصر، في حين تسبّب انقطاع الاتصالات في عزل مناطق كاملة عن العالم الخارجي. لكن على الرغم من ذلك، ظلّت وتيرة التظاهر عالية من حيث ارتفاع عدد المواطنين وزيادة عمليات اقتحام المباني والمقرات الحزبية التي تركزت هذه المرة على حزب "الدعوة" و"تيار الحكمة" و"الفضيلة" و"بدر" ومقرات مليشيا "العصائب" و"حزب الله" أكثر من غيرها، عدا عن مبانٍ حكومية في البصرة والمثنى وذي قار والقادسية وميسان والسماوة.

وارتفع عدد القتلى منذ اندلاع الاحتجاجات إلى سبعة، بينهم فتى في السابعة عشرة من العمر، فضلاً عن إصابة أكثر من 150 متظاهراً توزعوا على النحو الآتي: 76 في البصرة، 32 في ذي قار، 38 في النجف وآخرين في ميسان وبابل وكربلاء والمجر وبلدات أخرى جنوب العراق. وتصدرت مدن الزبير وشط العرب في البصرة أكثر المدن من حيث عدد الضحايا، بسبب فتح قوات الأمن النار على المتظاهرين ودهس آخرين بسيارات تابعة لقوات فض الشغب. وعقب ذلك، قرّر وزير الداخلية، قاسم الأعرجي، إقالة قائد شرطة النجف على خلفية مقتل متظاهر بعد اعتقاله وتعرّضه للضرب على يد أفراد الأمن. كذلك تمت إقالة ضباط آخرين في السماوة مركز محافظة المثنى حيث تم حرق عدد من المراكز الإدارية والحزبية أيضاً.

الخوف من شرارة بغداد

وفي بغداد، كشف مسؤول عراقي عن مساعٍ للحكومة لمنع اندلاع أي تظاهرات في العاصمة، وإفشال جهود قيادات مدنيّة وناشطين لتنظيم تظاهرة في ساحة التحرير وسط بغداد. ووفقاً للمسؤول ذاته، الذي تحدّث لـ"العربي الجديد"، فإنّ "التظاهرات في الجنوب قابلة للاحتواء عبر التفاوض مع زعماء المجتمع هناك، وبالنهاية السيطرة عليها وهو ما تسعى إليه الحكومة، لكن إذا انتقلت لبغداد سيكون هناك توتر كبير وفوضى".

وكشف المسؤول أيضاً عن "رفض مرجعيات دينية ورجال دين في حوزة النجف التدخّل لدعوة المواطنين إلى التهدئة"، مضيفاً أنّ "بغداد فيها نسبة فقر وبطالة كبيرة وأي شرارة تظاهر ستكون سيئة على العاصمة، وحرق مقرات الأحزاب بالجنوب لن يثير مشاكل كما لو كان سيحصل في بغداد"، وفقاً لقوله.

وعلى خلاف المعتاد، تمّت زيادة أعداد القوات العراقية في المناطق ذات الغالبية الشيعية ببغداد، على غرار الشعلة والزعفرانية والكاظمية وضاحية الصدر وحي أور في جانب الرصافة من بغداد، بينما شوهدت قوات إضافية تحيط بالمنطقة الخضراء، وأغلقت بوابة دخول المواطنين القريبة من مبنى وزارة التخطيط. وتعليقاً على هذه التطورات، قال سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، لـ"العربي الجديد"، إن التظاهرات بجنوب العراق "عفوية لكن هناك الآن من يحاول حرف مسارها"، معتبراً أنّ "حرق مقار الأحزاب ليس عفوياً".

وأضاف فهمي "نحن كحزب شيوعي عراقي مع مطالب الناس وحقوقهم، غير أننا لن نشارك كحزب فيها"، مبيناً أنّ "هناك من يحاول الاستيلاء أو الدخول على خط التظاهرات لحرفها عن مسارها"، في إشارة إلى جهات وأحزاب سياسية دينية في جنوب العراق، بينها فصائل مسلحة أعلنت عن تأييدها التظاهرات.

في المقابل، دعا علاوي إلى تشكيل حكومة إنقاذ لتهدئة الأوضاع، بما أن "العراق يمر بأزمة لربما هي الأخطر، اشتدت بعد الانتخابات الأخيرة التي شابها الكثير من الإشكالات والطعون". وأضاف علاوي، في بيان، أنه "نظراً للتداعيات الحاصلة، إضافة إلى الخشية من ملامح عودة الإرهاب والتطرف وانعدام حل الإشكالية القائمة بين بغداد وأربيل بشكل جدي وجذري، تبرز الحاجة اليوم لمعالجات حقيقية تكمن بتشكيل حكومة إنقاذ وتهدئة الأوضاع وإجراء انتخابات جديدة ونزيهة". 


سيناريوهات الحكومة مع الجنوب

تتلخّص استراتيجية الحكومة العراقية حالياً في التعامل مع الاحتجاجات في جنوب العراق، التي وصفها نائب الرئيس العراقي ورئيس الوزراء الأسبق، إياد علاوي، بـ"انتفاضة لن تنفع معها المسكنات"، بخطوات عدّة أقرّت في ختام اجتماع خلية الأزمة العراقية التي تضمّ رئيس الوزراء حيدر العبادي، ووزراء الدفاع والداخلية ورئيس جهاز الاستخبارات، ومستشاري الأمن الوطني، ورئيس أركان الجيش. ومن أبرز هذه الخطوات قطع الاتصالات بالكامل ومن ضمنها خدمات الإنترنت والهاتف النقال والأرضي، ومنع التصوير من قبل الصحافيين والناشطين، وإيقاف ترخيص بعض القنوات المحلية، وتقييد حركة المحطات الأجنبية العاملة في العراق، إضافة إلى الدفع بقوات كبيرة من الجيش والشرطة وتشكيلات أمنية أخرى والعودة إلى سياسة الجيش الأميركي السابقة في العراق، وهي فصل الأحياء السكنية وإغلاق المناطق المهمة والحساسة في المدن.

ولوحظ أمس الأحد، اتباع قوات الأمن العنف المفرط مع المتظاهرين، حيث شهدت ساعات النهار مقتل 3 منهم وإصابة نحو 70 آخرين، بحوادث إطلاق نار واستخدام قنابل الغاز، بالإضافة إلى حادثة دهس في البصرة بسيارة عسكرية.

وفي السياق، دفعت الحكومة بتعزيزات عسكرية كبيرة لحماية السجون التي تتركز بالغالب في المحافظات الجنوبية، بعد مخاوف من اقتحامها من قبل المتظاهرين الغاضبين. وقال مسؤول أمني لـ"العربي الجديد"، إنّ "هناك خطراً كبيراً يكمن في السجون وقد يقدم المتظاهرون على اقتحامها وإطلاق السجناء، ما قد يتسبب بحدوث حالة فوضى خطيرة". وأكد أنّ "الحكومة وجهت بإرسال تعزيزات كبيرة لحماية السجون، خاصة الكبيرة منها، ومنها السجنان المركزيان في البصرة وذي قار، فضلاً عن تأمين السجون الأخرى في بقية المحافظات"، لافتاً إلى أنّ "القوات تحرّكت لتأمين السجون في أسرع وقت ممكن".

وتعليقاً على ذلك، قال مسؤول عراقي في بغداد في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إنّ "خطة الحكومة لاحتواء الجنوب تسير وفق مسارين؛ الأول المزيد من القرارات الإصلاحية، كتحسين الخدمات وتخصيص أموال تنمية البنى التحتية وإقالة المتهمين بالفساد وتغييرات على مستوى القيادات الأمنية، بالإضافة إلى خطة واسعة لتوظيف عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل خلال هذا العام. أمّا المسار الثاني فهو عبر التعويل على الوقت، بمعنى أنّ التظاهرات ستخف وتتلاشى بمرور الأيام مع استمرار قطع الاتصالات".

ولفت المسؤول إلى أنّ "التعويل على استقالة رئيس الوزراء وإعلان حكومة إنقاذ في حال وصلت التظاهرات إلى بغداد، غير مطروح حالياً كونه سيقودنا إلى نفق مجهول"، كاشفاً عن "جهود كبيرة تبذلها الحكومة لتنظيم مؤتمر عام لوجهاء وأعيان وشيوخ عشائر الجنوب، ليس من بينهم الأحزاب والحركات السياسية أو الواجهات الدينية، لبحث مطالبهم"، مبيناً أنّ "هناك زعامات وافقت وأخرى رفضت".

وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي، قد أصدر في وقت متأخر من ليلة السبت‏، سبعة قرارات بشأن مطالب التظاهرات في جنوب العراق، تضمّنت تخصيص ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار للبصرة، وإقالة هيئة إدارة مطار النجف المتهمة بالفساد، وتخصيص أموال لمشاريع تحلية المياه، وزيادة إطلاقات نهري دجلة والفرات نحو شط العرب، وفك الاختناقات بشبكات الكهرباء، وتوفير الخدمات الصحية اللازمة".

وأمس، أصدر العبادي بياناً أمر فيه بمنع استخدام الذخيرة الحية ضدّ المتظاهرين في الجنوب، مؤكداً أنهم سلميون، "لكن هناك قلة تريد التخريب وإحداث الضرر". وأوضح أن "التظاهر السلمي حقّ للمواطن ونحن نستجيب له، ولكن إخراج التظاهرات عن سياقاتها بحرق أبنية مؤسسات الدولة وقطع الشوارع وحرق الإطارات والاعتداء على القوات الأمنية، يمثّل محاولة لإرجاع البلد إلى الوراء، فهناك جهات من الجريمة المنظمة مهيّأة لإحداث حالة فوضى". وتابع "هناك قلّة تريد التخريب واستخدام مطالب المتظاهرين لإحداث ضرر. فقد قام المخربون أمس (السبت) بضرب خطّ كهرباء بسماية وهذا فيه ضرر للمواطن وللدولة"، موضحاً "أننا لا نريد للبلد أن يغرق بالنزاعات السياسية، فهذه لها مجالها الذي يتمّ البحث فيه، والاعتداء على المؤسسات الدينية وبيوت المراجع خط أحمر".

ودعا العبادي "الأجهزة الأمنية إلى أن تكون على أهبّة الاستعداد، لأنّ الإرهاب يريد أن يستغلّ أي حدث أو خلاف"، مؤكداً على "أهمية العمل الأمني والاستخباري". وأشار إلى أنّ "التوجيهات للأجهزة الأمنية هي بعدم استخدام السلاح الحي لمواجهة المواطنين غير المسلحين"، مبيناً أن "عدم استخدام الرصاص الحي لا يعني عدم التصدي الذي يجب القيام به، ومن لا يقوم به يعدّ متخاذلاً".