طرابلس اللبنانية: مدينة تذوي

طرابلس اللبنانية: مدينة تذوي

13 مارس 2015
الطبقتان الوسطى والعليا لا تتجاوزان 20% (حسين بيضون)
+ الخط -
يوحي اكتظاظ السير في شوارع طرابلس، شمالي لبنان، بأن كلّ شيء على ما يُرام. يظن زائر ثاني أكبر مدينة لبنانية بعد بيروت، أن الحياة عادت إلى طبيعتها بعد 21 جولة قتاليّة بين جبل محسن (ذي الغالبية العلوية) وباب التبانة (ذي الغالبية السنيّة)، وسقوط عشرات القتلى من الجانبين منذ مايو/أيار 2008. عملياً توقفت جولات القتال بعد خطة أمنيّة توافق عليها الجميع في لبنان، ودخل على هذا الأساس بعض "قادة المحاور" (المليشيات المسلحة) إلى السجن، وبقي آخرون خارجه، وهرب رموز جبل محسن إلى سورية.

توقفت هذه الاشتباكات لكن العبور من "شارع سورية" (الذي يفصل جبل محسن وباب التبانة) إلى جبهتي القتال السابقتين دونه حواجز، بعضها عسكري وآخر نفسي. فالخطة الأمنيّة لم تترافق حتى اللحظة مع خطة اقتصادية جدية لدعم المدينة، ومناطق الاشتباك تحديداً. وبقيت عشرات ملايين الدولارات التي وعد بها مجلس الوزراء اللبناني قرارات لم تجد طريقها إلى التنفيذ بعد، رغم أن تيار المستقبل (برئاسة سعد الحريري) قام بِطَلي واجهة باب التبانة المطلّة على جبل محسن بدهان جديد. اليوم، يدور نقاش حاد في طرابلس، أعاد بعض الحيوية إلى مجتمعها المدني، الذي يعيش في غيبوبة منذ سنوات، وذلك بعد قرار مجلس الوزراء اللبناني وبلدية طرابلس إنشاء مرآب للسيارات في ساحة التلّ، وهي ساحة بناها العثمانيّون في المدينة ووضعوا فيها سرايا الحكم. يأخذ النقاش حول هذا المرآب بُعداً سياسياً أكثر منه إنمائياً. فتحوّل الأمر إلى صراع بين سعد الحريري ونجيب ميقاتي (ابن المدينة). يقول بعض العاقلين في طرابلس، إن رفضهم للمشروع ينطلق بشكلٍ أساسي من أن أيا من المشاريع التي تُنفذها الجهات الرسمية لم ينتهِ، على الرغم من العمل فيه منذ سنوات.
اكتظاظ السير هذا يغش، مثلما تغش بعض المقاهي الممتلئة، والمباني الفارهة. أكثر ما يُعبّر عن مدينة طرابلس، هو سينما "كابيتول". عاشت هذا السينما عصراً ذهبياً، وهي لا تزال مستمرة بالعمل حتى اليوم. استمرارها بحدّ ذاته هو إنجاز. لكنها تعرض أفلاماً قديمة، مصريّة وغربيّة. لا تعرض هذه السينما أي جديد، بل تعيش على رصيد ماضيها. كذلك هي طرابلس.

الخوف من "داعش"

يُصرّ بعض الإعلام اللبناني على وصم طرابلس بأنها "قندهار لبنان". يتحدثون عن دعمها تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) وعن كونها "بؤرة للإرهاب"، رغم أن المدينة أثبتت مرات ومرات، أنها لا تدعم خيارات بعض أبنائها. وشكّلت الاشتباكات في الأسواق الداخليّة للمدينة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بين مجموعات تدور في فلك "داعش" والجيش اللبناني دليلاً على عدم دعم أبناء المدينة لهذا الخيار المجنون.
رغم ما يُقال بحقها، فطرابلس هي التي تخاف من "داعش". للخوف مستويات مختلفة. يخاف أبناء المدينة غير المنضوين في تيارات إسلاميّة، من أن هذا التنظيم سيضرب المدينة بقسوة. يتذكرون تجربة حركة التوحيد (ثمانينيات القرن الماضي)، التي تزعمها الراحل سعيد شعبان، والتي أدى جنونها وتهورها إلى تدمير أحياء كبيرة من المدينة. فهذه الحركة، تورّطت في مجازر أخذت بعداً طائفياً وسياسياً، خصوصاً بحق المسيحيين والشيوعيين، كما أن الحركة تسببت بدخول الجيش السوري إلى المدينة. وقد حمل هذا الدخول، ويلات عليها، من أبرزها المجزرة في باب التبانة، التي لم تُكشف تفاصيلها بعد، إضافة إلى ضرب البنية الاجتماعية والسياسيّة للمدينة، التي وجدت نفسها بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005، بلا أحزاب سياسيّة جدية، ولا هيئات مجتمع مدني تستطيع قيادة المدينة. وتحوّلت طرابلس، إلى بريد لتبادل الرسائل بين القوى اللبناني، وخصوصاً تيار المستقبل وحزب الله.

يخاف أبناء طرابلس، مسلمين ومسيحيين، من تكرار هذا السيناريو. ويخاف الإسلاميون أيضاً من "داعش"، ومن "الدواعش" كما يُسمونهم. هناك لوائح اغتيال وضعها هؤلاء، وأرسلوا من يُنفذها. يُدرك الإسلاميّون أن خطر "داعش" عليهم مزدوج. الخطر الأول، مباشر، لأنهم يقفون عقبة بوجه مشروع "داعش". الخطر الثاني غير مباشر، لأن المجتمع يُحمّلهم مسؤوليّة ممارسات "داعش" ما يجعلهم يخسرون تدريجياً بعض ما راكموه من تأييد شعبي على مدى السنوات الماضية. وقد بدأت هذه الخسائر، خصوصاً المادية، مع التضييق المالي الذي يتعرضون له، ما أدى إلى تراجع مساعداتهم الاجتماعية. وهذا ما يدفع أحد المسؤولين السابقين في حركة التوحيد إلى التأكيد لـ"العربي الجديد" أن إسلاميي طرابلس هم من سيقفون في وجه "داعش" إذا ما قررت أن تقامر بأمن المدينة.

اقرأ أيضاً: حظوظ زيارة مشعل السعوديّة ترتفع...و"حماس" ليست إرهابية بنظر الرياض

السطوة الأمنية

أمّا الخطر الأبرز على المدينة، فهو تحوّلها إلى "جزيرة أمنية" نتيجة ما سبق من خوف داخلي وتخوّف لبناني وغياب سياسي وأهلي في المدينة. تراجعت السياسة كثيراً لمصلحة الأجهزة الأمنيّة. وتحوّل رؤساء هذه الأجهزة في طرابلس إلى حاكمين بأمرهم. يستغلّ بعض هؤلاء ما يملكونه من سلطة وقدرات ماليّة لتنفيذ أجندات ليست دائماً في مصلحة المدينة أو البلد. رعى هؤلاء قادة المحاور سابقاً، ويستخدمون "داعش" وفزاعتها، لإحكام سيطرتهم على المدينة. وتحوّل الأمنيون إلى صلة السياسيّين الأبرز مع طرابلس.
من أكثر الأمثلة سطوعاً على هذا الأمر، استمرار انضمام عشرات الشبان من أحياء طرابلس إلى "داعش" في سورية والعراق. ولا تخفى شبكات التجنيد على أحد في المدينة، لكن أحداً لا يوقفها. لا بل إن مسؤول أحد الأجهزة الأمنية الذي أطلق سراح شاب، ورتب أوضاعه القانونية، وهو متورط بإرسال عدد من الشبان إلى العراق، قال لمن راجعه: "هذا منجم معلومات خارج السجن وتريدني أن أعتقله؟". يستغل مسؤولو الأجهزة سلطتهم لتحويل من يرغبون إلى مخبر، عبر الترغيب المالي والمصلحي، والترهيب وتعطيل بعض المصالح أو تسطير التقارير.
لكن أبرز ما يجعل الطرابلسيون يشعرون بالقلق في تعاملهم مع الأجهزة الأمنيّة، هو صراع هذه الأجهزة مع بعضها بعضاً. هو أمر بات ملموساً للجميع، إذ تكررت الأحداث التي كان أبرزها سماح أحد مسؤولي الأجهزة الأمنيّة لمسلحين بإخراج موقوف من المستشفى حيث كان يُعالج.

الانهيار الاقتصادي

يتحدث الكثير من أبناء طرابلس وفاعلياتها عن الفقر في المدينة، وعن عدم شمولها بخطة إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية. وما بني لا يُستفاد منه. فالملعب الأولمبي تحوّل إلى ثكنة للجيش اللبناني، كما يوجد في قلب قلعة طرابلس. المنطقة الاقتصادية الحرة تنتظر تعيين مجلس إدارتها، وقد كان هذا الملف أحد الملفات الخلافية التي عطلت مجلس الوزراء اللبناني لأسابيع. ومرفأ طرابلس ينتظر تطبيق الوعود بتطويره وتوسيعه. أمّا مصفاة النفط فمعطلة، ورغم ذلك يوظّف فيها موظفون جُدد، ومن خارج المدينة. أمّا سكّة الحديد، فباتت حلماً قديماً. أما معرض رشيد كرامي فقصة أخرى، فقد تحولت هذه المنشأة إلى مجرد ساحة للاحتفالات السياسيّة ومعرض سنوي للكتاب. كما أن مطاري حامات والقليعات (ضواحي طرابلس) مغلقان. ومصانع طرابس التي كانت من أبرز معالمها وتستقبلك في منطقة البحصاص عند مدخل طرابلس، ومنها خرجت حركتها النقابية، فمعظمها مغلقة.

عُطلت الحياة الاقتصادية في المدينة. والأرقام تتحدّث بوضوح عن هذا الأمر. فدراسة تحت عنوان "الفقر في مدينة طرابلس" صادرة عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا في الأمم المتحدة "الإسكوا"، تُشير إلى أن "ظاهرة الفقر والحرمان في طرابلس واسعة الانتشار، ومعقدة، ومتعددة الأبعاد والتجليات، بحيث لا يصح وصف الوضع بأن هناك جيوباً للفقر والحرمان يمكن عزلها عن بقية المدينة"، وتضيف أن "ما يمكن اعتباره طبقة وسطى وما فوق، لا تزيد على 20 في المائة من إجمالي السكان". وبحسب الدراسة أيضاً، فإن 57 في المائة من الأسر المقيمة في طرابلس، هي أسر محرومة، وأعلى هذه النسب في باب التبانة حيث تصل إلى 87 في المائة.

تجاهل السياسيّون والمتمولون مدينة طرابلس. وقد يكون كلام الأب إبراهيم سروج، عن تجاهل الكنيسة الأرثوذكسية لأبنائها الفقراء في المدينة، من أبرز الأدلة على انفصال المؤسسة الدينيّة عن المدينة وفقرائها. يُشير سروج إلى عام 1972، كعام مفصلي. ففي ذلك العام يرى أن "المطارنة اغتصبوا السلطة في الكنيسة". ربما يكون سروج مصيباً. فذلك العام، شكّل نكسة للبلد كلّه، وتجاوزاً للديمقراطيّة، فانتخب مجلس نواب مهّد للحرب الأهليّة التي بدأت عام 1975، واغتصبت أحلام بناء الدولة في لبنان. حرب جعلت مدينة مثل طرابلس تذوب ببطء. تذوب لدرجة أن إشهار أحد المسيحيين من أبناء المدينة إسلامه والتحاقه بـ"داعش" يدفع بعضهم لاعتبار المسيحيّة في خطر. وإشاعة بإزالة كلمة "الله" تُهدد ما يُسمى سلماً أهلياً.

اقرأ أيضاً: خلط أوراق عند الحدود اللبنانيّة ـ السوريّة: "داعش" يتراجع