فواز طرابلسي يتذكّر الترويكا في "اليمن الديمقراطي" (1-4)

فواز طرابلسي يتذكّر الترويكا في "اليمن الديمقراطي" (1-4)

17 نوفمبر 2015
فواز طرابلسي تجربة مع اليسار اليمني (العربي الجديد)
+ الخط -
يصدر قريباً عن دار رياض الريس للنشر كتاب محاورات مع الكاتب اللبناني فواز طرابلسي عن تجربته الشخصية في حكم اليسار عهد "الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية"، أجرتها وحررتها الكاتبة والناشطة اليمنية، بشرى المقطري. تنشر "العربي الجديد" فصلاً من الكتاب.

تقديم

زرت عدن أول مرة عام 1970، وغادرتها آخر مرة عام 1993، وبينهما زيارات متعددة بمعدل أربع أو خمس مرات في السنة، في أثناء مسؤولياتي عضواً قيادياً في منظمة العمل الشيوعي في لبنان، ذات العلاقة النضالية الوثيقة مع الجبهة القومية، إلى الحزب الاشتراكي اليمني وسلطة اليسار. خطرت لي فكرة الكتابة عن تجربة حكم اليسار في اليمن في أكثر من مناسبة، خصوصا تحت وطأة الاقتتال بين فريقي الحزب الاشتراكي في يناير/كانون الثاني 1986 الذي سدد الضربة القاضية لحكم اليسار. ... أدلي بهذه الشهادة، بعد قرابة عقدين ونصف على انضواء جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجمهورية العربية اليمنية، وانطفاء أول حكم لليسار الماركسي في بلد عربي. بالإضافة إلى حملة متعمّدة لطمس التجربة، شنّها دكتاتور اليمن علي عبدالله صالح، الحاكم اليمني، وأجهزته الأمنية والإعلامية، تخلّى عدد كبير من المسؤولين في اليمن الديمقراطي سابقاً عن تجربتهم، وتنصلوا منها، بل أحجموا حتى عن عناء التأريخ لتلك الحقبة، أو مراجعة أدوارهم فيها، أما أصدقاء التجربة ومستشاروها، فلست أعرف أيا منهم، جازف بالشهادة عليها. ... 

مجلس الرئاسة

كانت فترة حكم الترويكا الفترة الواعدة في التجربة اليمنية الجنوبية. ثلاثة يكمّل واحدهما الآخر: عبد الفتاح إسماعيل الملهم والمرشد وباني الحزب، وسالم ربيع عربي (سالمين) القائد الجماهيري المهيوب والمبادر، وعلي ناصر محمد رجل الدولة والإدارة. كوّن الثلاثة مجلس الرئاسة الذي حلّ محل مجلس رئاسة خماسي، بعد إقصاء محمد علي هيثم.
تعرفت باكراً إلى سالمين وعلي ناصر محمد منذ زياراتي الأولى. ونشأت صداقة حميمة مع الإثنين. يختلف سالمين عن عبد الفتاح اختلافا بيّناً. فتاح يشبهنا، أقصد، نحن جماعة اليسار العربي الجديد. لغته لغة اليسار التي نعرفها في المشرق، يقرأ الكتب التي نقرأ، يجهر بتبني الماركسية-اللينينية، مع أنه مضطر لأن يسمّيها اشتراكية علمية، يقول بمقولات ما بعد 1967 التي نرطن بها، مثل سقوط القيادة البرجوازية الصغيرة لحركة التحرر العربية، والدعوة إلى أن تتولى الطبقة العاملة القيادة، إلخ.
سالمين ريفي، حاد الذكاء، شديد الفضول والسعي إلى المعرفة، لكنه متحفظ، يقرأ بنهم ويستفسر عن كل شاردة وواردة، وهو فوق ذلك استثنائي النشاط، وشجاع وعنيد وقائد جماهيري بلا منازع. كنت ألتقيه في كل زيارة، بل أكثر من مرة في الزيارة الواحدة. العلاقة معه عفوية وبسيطة وحميمية. نلتقي في مكتبه مساءً، ونظل نتكلم ساعات، وهو يتناول عشاءه على شكل رغيف خبز. أو يمرّ لأخذي من فندق أو دار ضيافة، خلال النهار، لمرافقته في زياراته الدورية على المزارع والتعاونيات وتجمعات الصيادين أو المشاريع الإنشائية ومعسكرات توطين البدو. ذات مرة، أخذني في دورة على ساحل أبين، ومررنا على أحد العشش، فترجّل من السيارة، وجلس بعض الوقت مع امرأة مسنّةٍ، تقعى قرب تلك العشّة. ثم دعاني وعرّفني على المرأة: هذه أمي. وقيل لي لاحقاً إن والدته من الأحجور، وهم قوم متحدرون من أصل إفريقي، سكنوا ساحل أبين بنوع خاص، وتولوا الزراعة والصيد، وهما مهنتان يأنفهما أبناء القبائل. وفي الأيام التي كنت أزور فيها اليمن، كانت نساء الأحجور يخدمن في دور الضيافة، وقد علمت منهن بعض الأشياء عن قومهن.
علي ناصر محمد إداري بالدرجة الأولى، رجل الملفات والخدمات، يسهر لآخر الليل على هموم الإدارة ومشكلاتها. يمرّ ويأخذني من الفندق أو دار الضيافة. نركب بالسيارة وندور. وعلي رجل حذر، يُؤثر أن تتم الأحاديث في السيارة منفردين. عندما يشاهده الناس، يتجمهرون حول سيارته فيوقفها، ويتسلّم من المواطنين عرضحالات مكتوبة على أوراق مستطيلة مطوية. كانوا يسمّونه "علي مرحبا" لكثرة خدماته. و"مرحبا" اليمنية متعددة الاستخدامات تفيد "أهلًا"، قدر ما تفيد "نعم"، و"ماذا تريد؟" "إيش تشتي"، أي تشتهي) و"تكرم"، إلخ. وعلي ناصر هو الشريك الأصغر في الثلاثي. شارك في العمل المسلّح. لكن، لم تكن لديه الشرعية الفدائية القيادية التي يتمتع بها عبد الفتاح أو سالمين، فعبد الفتاح قاد الفدائيين في عدن، وسالمين كان من قادة الفدائيين في لحج والضالع وحالمين، قبل أن يتولى هو أيضا قيادة العمل الفدائي في عدن. بدأ علي ناصر عمله محافظاً للجزر، وترقّى من الوزارات إلى أن تولى رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع، بعد إزاحة محمد علي هيثم، لتطمين من تبقوا من ضباط دثينة.

في لحج
مرّة أخذني علي ناصر إلى لحج، وزرنا صاحب حانوت متواضع، تبيّن أنه شيخ قبيلته من مودية. استقبله الرجل بجفاء. وتمنّع عن الخوض في الموضوع الذي أراد علي مفاتحته به في حضوري. ثم طمأنه علي بأني صديق ورفيق و"من أهل البيت"، كما قال. وتبيّن أن الأمر يتعلق بابنة الشيخ، وقد تزوجت على الرغم من إرادة أبيها، وهربت مع زوجها إلى عند علي ناصر، فآواهما. الحوار متوتر: شيخ القبيلة يصرخ في وجه عضو مجلس الرئاسة ورئيس الوزراء وعضو المكتب السياسي في الحزب الحاكم، وهذا يحاول تهدئة روعه، ويسعى إلى إقناعه بأن يزوره في منزله في عدن، لعقد مصالحة مع ابنته وزوجها. غادرنا وشيخ القبيلة لم يقتنع.
كان علي ناصر مرجعي في ما يتعلق بالإدارة والسياسات الاقتصادية. الإحصائيات والأرقام عنده. وعنده الخطط والأشواط المقطوعة في تنفيذها. وعنده أيضاً الموقف الموضوعي والحذر في النزاعات. هذا قبل أن يصير هو نفسه موضع نزاع.
من سالمين وصالح مصلح وعلي عنتر تعلّمت الكثير عن اليمن. أدخلوا اليمن إلى معارفنا وهمومنا. وكان صالح مصلح وجار الله عمر من أقرب الرفاق والأصدقاء، وهما الثنائي المسؤول عن ملفّ الشمال. كانت علاقتي بعلي عنتر جيدة، لكنها متحفظة، وكنت أداريه، وهو يحذر مني، على اعتباري قريباً من عبد الفتاح. ولكن نوادر "أخ العرب" لا تنسى، قدر ما هي دالّة على التجربة، وأساسها الاجتماعي وقواها.
مرة، أخبرنا علي، بحضور صالح مصلح، حكاية تعطي فكرة عن مزاجه، وعن الحنكة الشعبية لديه، مثلما تعطي فكرة عن التديّن الشعبي. مجموعة فدائية خارجة من إحدى القرى في مهمة قتالية بقيادة علي عنتر، ما أن تغادر القرية، حتى تسقط عليها قذيفة بريطانية تردي عدداً من أفرادها بين شهيد وجريح. رأساً يبادر علي لاستيعاب الموقف. يركع إلى جانب أفراد المجموعة المطروحين أرضاً "يا حظهم: رأساً إلى جنات النعيم. ليتنا كنا معهم. مباشرة إلى جنات النعيم. إلى حور العين. ليتنا كنّا معهم". وظل يردد "حور العين. حور العين. ليتنا كنا معهم". وصدف أن والد صالح مصلح جالس على صخرة يتأمل المشهد. فقال للمقاتلين: "لا تصدّقوا راعي البغال هذا. لا يوجد شيء بعدما يضعون البلاطة على صدركم. لا حور عين، ولا ولدان مخلّدون؟ هو الله فتّال؟ أستغفر الله العظيم!".

"الأيام السبعة المجيدة"
عند إعلان الاستقلال، اجتاحت جموع ريفية مدينة عدن، واحتلّ قسم كبير منهم الأبنية والشقق والبيوت التي غادرها البريطانيون. كان هناك حقد على عدن، وقد استفحل فيما بعد، بات أكثر تنظيماً، عندما بدأت المسيرات الشهيرة التي عُرفت بـ "الأيام السبعة المجيدة" في أغسطس/آب 1972، وهي كنابة عن سبعة أيام من التظاهرات والمسيرات من الأرياف المحيطة القريبة من عدن، بتحريض وقيادة مقرّبين من سالمين، أمثال علي سالم البيض وعلي صلاح عباد (مقبل)، وقادة ميدانيين شعبيين، أذكر منهم عوض الحامد من لحج. من هتافات المسيرات الأثيرة "سالمين نحن أشبالك/ وأفكارك لنا مصباح". طالبتْ المسيرات والتظاهرات بمزيد من التخفيض لرواتب الموظفين الحكوميين وبتأميم المنازل وتحرر المرأة. ومن شعارات تلك التظاهرات "واجب علينا واجب/ خفض الرواتب واجب/ واجب علينا واجب/ حرق الشوادر[النقاب] واجب". لم تخل الأيام من عنف. دخل المتظاهرون الإدارات، وضربوا الموظفين واتهموهم بالبيروقراطية. وأذكر أنني لما تعرّفت، ومحسن إبراهيم، إلى عبد الله باذيب، وقد زارنا في مكاتب "الحرية" في بيروت، كانت أبرز شكاوى رئيس الحزب الشيوعي اليمني هي من التطرف اليساري في الجبهة القومية، وقد فصّل في مخاوف أهالي عدن من اجتياح الريفيين مدينتهم في تلك الأيام.
لم تكن مثل هذه الظواهر غريبة في حركات التحرر الوطنية العربية. عرفتْ الجزائر "أياماً" مشابهة، ومثلها عرفت الفترة الأولى من حكم "البعث" في سورية، عندما كان الحكم بيد الثلاثي نور الدين الأتاسي – صلاح جديد – يوسف زعيّن.

أنشأ اتحاد العمال، بقيادة خالد الجندي، "المليشيا العمالية" التي أخذت على عاتقها هي أيضا "تطهير الإدارة" من أبناء العهود السابقة، ونصّبت نفسها حَكَماً في أي من الموظفين يجب عزله، ولا يستحق البقاء، وذلك بناء على الانتماء العائلي والاجتماعي والجهوي في معظم الأحوال، لا الكفاءة والخبرة. هو الجموح الريفي إياه ضد المدينة، باعتبارها مركز الاستعمار والامتيازات الاجتماعية ومسكن ملاك الأراضي والتجار والسماسرة والمرابين الذين يستغلّون أبناء الأرياف.
انتهى أمر "الأيام السبعة المجيدة" في عدن بتأميم المساكن، وقد فرض نفسه أمراً واقعاً، بعد أن احتل الأهالي المساكن التي كانت مؤجرة للبريطانيين. انقضت "الأيام السبعة المجيدة" وعبدالفتاح في الاتحاد السوفييتي للعلاج، وعند عودته، تلقى موجة الانتقادات عليها، ويبدو أنه تجاوب معها، فنشب أول خلاف بينه وبين سالمين. كان سالمين ذا مَيل صيني، يستلهم الثورة الثقافية الصينية، مؤمناً بدور الجماهير في التحريك الدائم للعملية الثورية، ينحاز إلى الصين في السياسة الخارجية، ولا يثق في السوفييت، ولا هم يثقون به. بالعكس تماماً عن عبدالفتاح، الأميل إلى السوفييت.