ضحايا الثورة التونسيّة: مَن قتلهم ومَن يبرّئ قتلتهم؟

ضحايا الثورة التونسيّة: مَن قتلهم ومَن يبرّئ قتلتهم؟

22 ابريل 2014
اعتصام أمام المجلس التأسيسي ضد الأحكام (getty)
+ الخط -

لا يزال التونسيون يتذكرون، بالتفصيل، كيف مرّت عليهم أيام ما بعد هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي من البلاد، في يناير/ كانون الثاني 2011. كانت الإذاعات والتلفزيونات تتناقل أخبار الموت والحرق والسيارات الغريبة التي كانت تجوب الشوارع، وتُرصد في أكثر من مكان. لكن خبراً كان يقضّ مضاجع التونسيين، ولم يستطع أحد، حتى اليوم، أن يجد له تفسيراً: قنّاصة في كل المدن أشبه بالأشباح، لم يرهم أحد، لم يمسك بهم الجيش ولا الشرطة، ومع ذلك، كانوا هناك يقتلون شباباً خرجوا احتفاءً بثورتهم. وتقول الأرقام المتداولة اليوم إن 76 شهيداً فقط سقطوا قبل هروب بن علي، وإن باقي الشهداء الـ245، سقطوا بعد هروبه، أي أن احداً تولى مهمة مواصلة القتل.

الأمن الرئاسي والقيادات الأمنية

كان الاعتقاد الغالب لدى عموم التونسيين، أيام الثورة، يفيد بأن الأمن الرئاسي هو الذي يقود "معركة الدفاع" عن النظام، بهدف السيطرة على الشارع وإعادة بن علي إلى السلطة. وجرى القبض على مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي، والعديد من القيادات الأمنية، وأبرزهم وزير الداخلية رفيق الحاج قاسم، الذي استبدله بن علي، قبل هروبه بأيام، بأحمد فريعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كما جرى اعتقال أبرز القيادات الأمنية، ومن بينهم المدير العام السابق لحفظ النظام، جلال بودريقة، والمدير العام السابق للأمن العمومي لطفي الزواوي، والمدير العام للأمن الوطني السابق عادل الطويري، وآمر الحرس الوطني لمين العابد وآخرين، على خلفية الاشتباه بتورطهم في قمع التظاهرات، والتسبّب بقتل المتظاهرين بالرصاص الحي أو نتيجة الاختناق بالغاز المسيل للدموع.

لماذا المحكمة العسكرية؟

ينصّ القانون التونسي على أن القضاء العسكري يختص بالقضايا التي يكون أحد أطرافها منتمياً الى المؤسسة العسكرية. لهذا، فإن البحث أو التحقيق في قضية ما، ينطلق لدى القضاء العسكري، إذا اتّضح منذ البداية أن أحد الاطراف ينتمي الى المؤسسة العسكرية.

وقد لا يتوفر في بداية البحث، ما يوجب تدخل القضاء العسكري، فيتولاه القضاء العدلي، على أن يتخلى عن القضية في أي مرحلة من التتبُّع متى كشفت الابحاث والتحقيقات عن تورط عسكري أو أحد أعوان قوات الأمن الداخلي. هذا ما حصل بالفعل في محاكمات أعوان النظام السابق في قضايا قتل المتظاهرين، إذ تعهّد القضاء العدلي في البداية بهذه القضايا، ولكنه سرعان ما تخلى عنها للقضاء العسكري، لأن بعض القيادات المتهمة هي من كوادر قوى الأمن الداخلي. لذلك أمسك القضاء العسكري بكامل الملف، وأُحيل المتهمون بتهم المؤامرة ضد أمن الدولة الداخلي، وحمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً بالسلاح وإثارة الفوضى والقتل.

لمَ التخفيف من الأحكام الابتدائية؟

ثبّت الاستئناف العسكري حكماً وحيداً من الأحكام الابتدائية، وهو المؤبد لبن علي. أما باقي الأحكام، فقد خفّضت من قرارات المحكمة الابتدائية. وجاءت معظم قرارات القضاء العسكري لتعطي 3 سنوات سجن بتهمة "الامتناع عن المحظور"، مثلما حدث مع السرياطي، أي إدانته لعدم التدخل لمنع الاعتداء على المتظاهرين بصفته مديراً للأمن الرئاسي آنذاك. وقد وصلت الأحكام الابتدائية بحق وزير الداخلية السابق، رفيق الحاج قاسم، إلى 37 عاماً من السجن، في حين جرى تغيير التهم من القتل العمد، الى القتل على وجه الخطأ أو الاعتداء بالعنف الشديد في شأن العديد من المتهمين، وهو ما أدى الى هذا "التخفيف الشديد" للأحكام من طورها الابتدائي الى الاستئنافي.
وتقول بعض المعلومات القليلة المتوفرة، قبل صدور حيثيات الحكم، إن القاضي قدّر أن الملفات لا تتضمّن أدلة قاطعة على القتل أو نية القتل. لكن محامي عائلات شهداء الثورة وجرحاها، شرف الدين القليل، أكد أنّ فريق المحامين تقدّم، أثناء مرافعاته بالمحكمة العسكرية، بـ100 دليل مادي يثبت تورط المتهمين، تتمثّل في وثائق وشهادات لقيادات أمنية وسجلّات مكالمات هاتفية وجرد الأسلحة و22 تقريراً.

وأشار المحامي إلى أنّه رغم كون قاضي التحقيق غضّ الطرف عن العديد من النقاط، مع رفض وزارة الداخلية مدّ المحامين بسجلات المكالمات الهاتفية وأنواع الأسلحة، ضُمّنت العديد من الأدلّة والوثائق في ما بعد في الملف.

وتحدث القليل عن "تورط رجل أعمال تونسي في الأحكام العسكرية الصادرة في قضايا شهداء الثورة منذ تولّيها من قبل القضاء العسكري، وكان له تأثير كبير فيها، بالتنسيق مع الجنرال رشيد عمار" (قائد الجيش السابق). ورأى أن هذه الأحكام "صفقة بين مؤسسات أمنية وعسكرية تهدف إلى عدم المس بشخص رشيد عمار".

استقلالية القضاء العسكري؟

طرح السؤال بقوة بعد الأحكام العسكرية الاخيرة عن استقلالية القضاء التونسي عموماً، والقضاء العسكري تحديداً. لكن التشكيك بالقضاء العسكري لا يخص تونس وحدها، إنما يشمل كل المحاكم العسكرية في العالم التي تدين بمبدأ "الانضباط العسكري" وطاعة الأوامر.

وليس النقاش حول هذا الموضوع في تونس، وليد الايام الأخيرة، بل طُرح منذ تولي القضاء العسكري مهمة استلام هذه القضايا منذ عامين. وكان المشكِّكون في نزاهة القضاء العسكري، يدعمون موقفهم بأن القضاة العسكريين "مجرد موظفين يطبّقون التعليمات، لارتباطهم بالسلطة التنفيذية إدارياً". والأمثلة على ذلك عديدة على غرار محاكمة الأزهر الشرايطي ورفاقه سنة 1962 بتهمة الانقلاب على حكم الحبيب بورقيبة، ومحاكمة ما يعرف بـ"مجموعة برّاكة الساحل" سنة 1991، وهي محاكمات لم تراعَ فيها أبسط حقوق المتهم في الدفاع عن نفسه، وصدرت فيها أحكام قاسية ستظلّ مرجعاً للحكم على طبيعة واستقلالية القضاء العسكري.

وكان "مرصد استقلال القضاء" قد أصدر بياناً حذّر فيه من استخدام المحاكم العسكرية في معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، وهو ما يتناقض مع معايير المحاكمة العادلة التي تقتضي إحالة الاختصاص في هذا الشأن الى المحاكم المدنية. وأكد أن "المحاكم العسكرية في وضعها الحالي، لا تستجيب لضمانات الحياد والاستقلالية، بالنظر الى أن تسمية القضاة العسكريين تتم باقتراح من وزير الدفاع، ولأن هؤلاء يخضعون لقواعد الانضباط العام".
ويضيف "المرصد" أنه حتى القضاة المدنيين "يتم تعيينهم في تلك المحاكم العسكرية باقتراح من وزير العدل، فضلاً عن أن الدوائر القضائية ـ أكانت تختص بالجنح أو بالجنايات ـ تضم غالبية من القضاة العسكريين، فضلاً عن أن مجلس القضاء العسكري، الذي ينظر في الشأن الوظيفي للقضاة العسكريين، يتألف من قضاة معينين يرأسهم وزير الدفاع".

سيناريوهات ممكنة

تبدو السيناريوهات الممكنة بخصوص الأحكام العسكرية المخففة في قضايا شهداء الثورة التونسية، مفتوحة على جميع الاحتمالات. فقد طالب الرئيس منصف المرزوقي، الطعن في الأحكام، وهو ما جرى بالفعل، وهو ما يرى فيه كثُر، إمكانيةً لـ"استدراك الأخطاء". ويمكن للطعن أن يعيد القضية الى طورها الأول، على أن تنظر فيها المحكمة العسكرية دائماً، ولكن بتركيبة أخرى. لكن المطالبين بـ"دوائر قضائية خاصة" ينتظرون نقض الأحكام في مرحلة الطعن، لإخراج القضية برمتها من الإشراف العسكري الى هذه الدوائر.

جدل قانوني ـ دستوري

لقد أثار اقتراح بعض النواب والسياسيين بإنشاء "دوائر قضائية خاصة" تنظر في قضايا الشهداء والجرحى، نقاشاً قانونياً ودستورياً كبيراً، باعتبار أن الدستور منع إنشاء محاكم استثنائية، وأقر للمحكمة العسكرية بأن تواصل النظر في مثل هذه القضايا. لكن عدداً من الفقهاء الدستوريين، ومنهم النائب العميد فاضل موسى، لا يرى تناقضاً دستورياً بين إنشاء هذه الدوائر من جهة، والدستور التونسي الجديد من جهة ثانية. في المقابل، يرى طرف ثالث أن الحل الأمثل يكمن في تطبيق العدالة الانتقالية، التي يجيز قانونها النظر في كل الملفات السابقة، حتى وإنْ نظر فيها القضاء وقال كلمته فيها، إذ يمكنه العودة الى أي فترة تاريخية، وبذلك، يمكن تفادي أي تعدٍّ على الدستور الجديد.

والتقت رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس التأسيسي ونوابه والاتحاد العام للشغل ومنظمة أرباب العمل ومنظمة حقوق الانسان وغيرها من أبرز المؤسسات والمنظمات في تونس، على رفض هذه الأحكام، واعتبارها صادمة ومشجعة على الإفلات من العقاب. والتحقت بهذا الموقف، الغالبية الساحقة من الاحزاب السياسية والجمعيات التي رأت في هذه الأحكام "اغتيالاً ثانياً للشهداء"، واستهتاراً بالثورة وبأرواح الشهداء، لتشكّل الأحكام المذكورة، محطة شبه إجماع جديد في تونس.
وتردّدت كلمة "الثورة المضادة" بكثافة في تعليقات السياسيين إزاء الأحكام. وقال رئيس كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي، الصحبي عتيق، إن "المعركة هي للوقوف ضد كل محاولات الردّة التي هي حلقة من حلقات الثورة المضادة". أما المتحدث باسم حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، محمد جمور، فرأى في الأحكام، "الحلقة الاخيرة في مسلسل تبرئة نظام المخلوع". كذلك اختصر زعيم الحزب الجمهوري، أحمد نجيب الشابي، موقف حزبه بالقول إن "هناك ثورة مضادة زاحفة يمكنها الاستيلاء على الحكم".

كما كانت لافتة انتفاضة الشارع التونسي في مدن عديدة بمسيرات ضخمة خرجت لتعبّر عن غضبها تجاه هذه الأحكام، ولتطالب بحقوق عائلات الشهداء والجرحى.