ماذا وراء تغيير قيادات الأجهزة الأمنية في الجزائر؟

ماذا وراء تغيير قيادات الأجهزة الأمنية في الجزائر؟

14 سبتمبر 2022
استُبعد المحسوبون على قايد صالح بعد وفاته (بلال بن سالم/Getty)
+ الخط -

لم يمرّ أسبوع على تغيير قيادة جهاز الأمن الخارجي الجزائري، بإقالة اللواء عبد الغني راشدي وتعيين اللواء جبار مهنى خلفاً له، حتى أُعلن عن تغيير آخر، مسّ هذه المرة مديرية أمن الجيش (المخابرات الحربية)، أحد الأفرع الثلاثة للاستخبارات الجزائرية (داخلي وخارجي وأمن الجيش)، وأكثرها حساسية لارتباطه بأمن المؤسسة العسكرية وقطاعاتها العملياتية والقيادات والمعلومات العسكرية.

وتثير التغييرات المستمرة والمتسارعة في أعلى هرم أفرع جهاز المخابرات الجزائري في الفترة الأخيرة تساؤلات جدية عن طبيعة هذه التغييرات ودوافعها الهيكلية والسياسية، وما إذا كانت السلطة السياسية في الجزائر لم تتوصّل بعد إلى هندسة أمنية مثالية تتماشى مع طبيعة المرحلة والتحوّلات الداخلية والظروف الإقليمية، أم أن هذه التغييرات تعدّ مظهراً يعبّر عن صراع داخل السلطة؟

بيد أن تقديرات أخرى تعتبر أن التغييرات الحاصلة هي جزء من تداعيات حالة اللااستقرار التي شهدتها البلاد منذ عام 2019 خلال الحراك الشعبي.

مخاوف من أن تؤدي التغييرات إلى إخلال بأداء المؤسسة الأمنية

سلسلة من التغييرات الأمنية في الجزائر

وقبل التغييرين الأخيرين كانت أفرع الجهاز الأمني قد شهدت سلسلة طويلة ومستمرة من التغييرات. فجهاز الأمن الخارجي شهد ثلاثة تغييرات في قيادته في ظرف خمسة أشهر، وخمسة تغييرات على التوالي منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون السلطة في نهاية 2019.

فقد تداول على قيادة الجهاز كل من كمال الدين رميلي، الذي أقيل في إبريل/ نيسان 2020، في سياق إعادة هيكلة جديدة للجهاز الأمني والجيش، وخلفه اللواء يوسف بوزيت، الذي أقيل بدوره في 20 يناير/ كانون الثاني 2021، وعُيّن نور الدين مقري خلفاً له حتى منتصف مايو/ أيار الماضي، عندما تمت إقالته وتعيين اللواء جمال مجدوب كحال خلفاً له، قبل أن يتم في 19 يوليو/ تموز الماضي إسناد قيادة الجهاز إلى عبد الغني راشدي، والذي أقيل من منصبه سريعاً في الثالث سبتمبر/ أيلول الحالي، ليقود الجهاز اليوم اللواء جبار مهنى.

وعلى غرار جهاز الأمن الخارجي، عرف جهاز الأمن الداخلي تغييرات متسارعة منذ إقالة واسيني بوعزة في إبريل 2020، عندما عُين خلفاً له عبد الغني راشدي، حتى 19 يوليو الماضي، عندما عُين اللواء ومدير الأمن الرئاسي السابق جمال كحال مجدوب قائداً للجهاز.

كذلك، عرفت مديرية أمن الجيش ثلاثة قادة منذ عام 2019، بدءاً من اللواء عثمان بن ميلود، ثمّ اللواء سيد علي ولد زميرلي، الذي أقيل الأحد الماضي من منصبه، وخلفه العميد عبد العزيز نويوات شويطر.

تأثيرات على أداء المؤسسة الأمنية الجزائرية؟

وبغض النظر عن الأسباب والدوافع التي نتجت عنها سلسلة التغييرات هذه، فإن المخاوف الأساسية بشأنها تتعلق بإمكانية أن تؤدي إلى إخلال بأداء المؤسسة الأمنية، خاصة في الظروف الحساسة التي تمرّ بها البلاد على صعيد الاستحقاقات الداخلية والظروف الإقليمية.

فمع كل تغيير يحدث على رأس الأفرع الثلاثة لجهاز المخابرات، تحدث توالياً تغييرات في المستويات الأدنى وعلى صعيد الجهات، وتغييرات أيضاً في نمط وأساليب العمل، ناهيك عن أن العمل في مثل هذه الأجهزة مبني على الكفاءة، لكنه مبني بشكل أكبر على عامل الثقة، ما يدفع كل مسؤول أمني جديد إلى إحداث تغييرات واستقدام رجال الثقة بالنسبة له ليحيطوا به.

عريبي بومدين: هذه المرحلة هي لإعادة ترتيب الأولويات وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بما يتوافق والتحديات الأمنية والإقليمية

لكن الباحث المتخصص في دراسات الأمن والدولة، الأستاذ في جامعة الشلف، غربي الجزائر، عريبي بومدين، يقلل من احتمال تأثير التغييرات الأمنية المستمرة على الأداء المؤسسي للأجهزة الأمنية.

ويقول بومدين في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "حتى وإن كانت المخاوف من أنّ التغيير المستمر مستقبلاً قد ينقل حالة الصراع السياسي إلى المؤسسة الأمنية، أو يضعف الأداء والفعالية والاحترافية، مخاوف مشروعة، إلا أنه لا يمكن الجزم بتأثير هذه التغييرات على أداء المؤسسة الأمنية، إذ ليست لدينا معلومات كافية حول خلفية هذه التغييرات، والتي قد تكون مبنية على اعتبارات تنظيمية وتقنية".

ويضيف بومدين: "كما أن هذه التغييرات تأتي في ظلّ مرحلة مشحونة داخلياً وإقليمياً، وهي مفهومة في ظلّ عدم الاستقرار السياسي الذي شهدته الجزائر منذ العام 2019، ومن ثم تأتي هذه المرحلة لإعادة ترتيب الأولويات وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بما يتوافق والتحديات الأمنية والإقليمية".

ارتباط التغييرات الأمنية في الجزائر بحدثين

وتجمع التحليلات وتقديرات الموقف الراهن، في ما يتعلق بسلسلة التغييرات الأخيرة في الأجهزة الأمنية، على أن مجمل ذلك له صلة بحدثين أساسيين:

الحدث الأول يخص إقالة الرجل القوي في جهاز المخابرات وقائده السابق الفريق محمد مدين المعروف باسم توفيق، والذي استُبعد من منصبه في سبتمبر/ أيلول 2015، وتبعت ذلك إعادة هيكلة جهاز المخابرات وتقسيمه إلى ثلاثة أفرع (داخلي وخارجي وأمن الجيش)، واستبعاد وملاحقة عدد من كوادر الجهاز الأمني من مساعدي مدين والمقربين منه.

الحدث الثاني يخص تداعيات الحراك الشعبي الذي اندلع في فبراير/ شباط 2019، والذي أتاح الفرصة لقائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح السيطرة على السلطة، واستبعاد كل القيادات المحسوبة على محمد مدين، وإعادة هندسة الجهاز، ووضع رجاله في المناصب العليا.

لكن وفاة قايد صالح المفاجئة في ديسمبر/ كانون الأول 2019، قلبت الأمور رأساً على عقب، إذ بدأت مرحلة معاكسة تماماً، تم فيها استبعاد المحسوبين على قايد صالح، وإعادة الاعتبار لقيادات كانت قد تمت ملاحقتها وسجنها في السابق، على غرار القائد الجديد للأمن الخارجي جبار مهنى.

إسماعيل معراف قالية: التغييرات المتكررة في الجهاز تُظهر أنّ الكفة لم تكن محسومة بالشكل الذي أرادت أن تكون عليه الدولة العميقة

ارتباك في المؤسسة الأمنية الجزائرية؟

لكن تقديرات سياسية تعتبر أن سلسلة التغييرات الأخيرة والمتسارعة في هرم الأجهزة الأمنية مؤشر إلى وجود ارتباك في هيكلة المؤسسة الأمنية وتدافع بين مجموعات داخل السلطة.

وبرأي المحلل السياسي والأستاذ في جامعة الجزائر إسماعيل معراف قالية، فإن التغييرات الأخيرة في الاستخبارات مرتبطة بالتغييرات التي تشهدها المؤسسة العسكرية منذ مدة.

ويوضح قالية في حديث مع "العربي الجديد"، أن "التغييرات المتكررة في الجهاز تُظهر أنّ الكفة لم تكن محسومة بالشكل الذي أرادت أن تكون عليه الدولة العميقة".

ويضيف أن "جهاز المخابرات عرف منذ 2015 هزات عنيفة، وخلال موجة الحراك الشعبي كان هناك خروج للتنافس والمعارك بين المجموعات إلى العلن، ولاحظنا ذلك في البداية مع السياسات التي اتبعها قائد الجيش حينها الراحل قايد صالح، والذي قام بملاحقة كل المحسوبين على قائد المخابرات السابق محمد مدين".

ويتابع أنه "بعد وفاة قايد صالح، ومع عودة مدين إلى المشهد بقوة (عبر نفوذه)، يحاول مدين أن يُعيد فرض رؤيته الأمنية، بالاستعانة بالقيادات الأمنية التي شاركته سياسات الكل الأمني المتشددة والتي كانت مطبقة في التسعينيات، ومن بين هذه القيادات، القائد الجديد لجهاز الأمن الخارجي جبار مهنى (عمل لسنوات طويلة رفقة مدين)، والذي يجسد مسعى العودة بالسلطة إلى مرحلة التسعينيات، حيث كانت القبضة الأمنية محكمة، ولا يُسمح بأي نشاط إلا في حدود صغيرة".