كييف التي تتصالح مع إيقاع الحرب

كييف التي تتصالح مع إيقاع الحرب

16 يونيو 2022
حركة شبه طبيعية في كييف (Getty)
+ الخط -

تعود الحياة تدريجياً إلى العاصمة الأوكرانية كييف، وبات الوضع شبه طبيعي في المدينة، على الرغم من استمرار الاجتياح الروسي للبلاد. وبحسب عمدة كييف فيتالي كليتشكو، عاد ما يقارب الستين في المائة من سكان المدينة إلى ديارهم، على الرغم من تحذيره للسكّان من العودة السريعة، إذ لا يزال الخطر قائماً، بحسب قوله.

حركة الناس في الشوارع أقل من المعتاد في مثل هذه الأوقات من العام الماضي، لكن المارّة بدوا متصالحين مع ما هو قائم من أجواء يسيطر عليها الترقب.

في كثير من الشوارع، ما زالت الدشم الدفاعية وأكياس الرمل تمنح المتجوّل تصوراً عاماً بأن أجواء الحرب قائمة. على مداخل العاصمة، حواجز لتفتيش السيارات القادمة باتجاه كييف وللنظر في وثائق القادمين إليها، لكن داخل المدينة، يُلاحظ غياب تام للجنود عن الحواجز في ساعة ما قبل حظر التجول الذي يبدأ عند الحادية عشرة ليلاً.

حركة الناس في الشوارع أقل من المعتاد، لكن المارّة بدوا متصالحين مع ما هو قائم من أجواء

البضائع تملأ رفوف المجمّعات التجارية، ولا يمكن الحديث عن نقص في أي من الأصناف، كما في الشهر الأول من الحرب. والمطاعم عادت وفتحت أبوابها واستأنفت أعمالها كالمعتاد، باستثناء المطاعم الغربية مثل "دومينوز بيتزا" و"ماكدونالدز". لكن مع إعادة استئناف السفارة الأميركية عملها، فتحت مطاعم الوجبات السريعة الأميركية "KFC". أما محلات الملابس العالمية الغربية، والتركية أيضاً، فما زالت مغلقة.

في المقابل، هناك نقص في المحروقات، الغاز والبنزين، والنقص الأكبر في المازوت، وذلك أمر مفهوم بحكم القصف الروسي الذي طاول العديد من خزانات الوقود في غرب البلاد ووسطها وشرقها، وكونه يُعد وقود الآليات العسكرية الأكثر استخداماً. أما أسعار العقارات فانخفضت بما يعادل نصف أسعار ما كانت عليه قبل الحرب، أما الإيجارات فنزلت بما يعادل الثلاثين في المائة عن فترة ما قبل الحرب.

غضب من بوتين في كييف

وعلى الرغم من الحرب، يحاول الأوكرانيون نشر الأجواء الإيجابية، ويلقون على بعضهم التحايا التي ولّدتها أجواء الحرب مع روسيا على شاكلة: "نحن من أوكرانيا... صباح الخير"، أو "المجد لأوكرانيا"، أو "يا رب احمِ أوكرانيا وانصرها".

على ضفاف نهر الدنيبر، امتلأت الشواطئ والمسابح بالرواد، وصدحت مكبرات الصوت بالأغاني، بعضها من الأغاني الشعبية الأوكرانية، وبعضها من تلك التي غنّتها الحرب، وأخرى لفرق ومغنين أميركيين وأوروبيين، وبعضها، وهذا هو المفاجئ، باللغة الروسية، فهذه العاصمة هي مدينة ناطقة بالروسية في أغلبها.

في الجلسات الخاصة هناك غضب من روسيا، وصلوات متصاعدة تتمنى رحيل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن هذا العالم. وفي الممرات تحت الأرض (خطوط المشاة وقنوات المترو)، تباع محارم المرحاض وقد رُسمت عليها صورة الرئيس الروسي، وهذا تعبير عن عمق الغضب تجاه ما يسمونها حرب بوتين على الشعب والوطن الأوكرانيين.

لكن هناك غضباً آخر يعتمل في الصدور، لكنه خافت، من القيادة الأوكرانية التي تُتهم من البعض بأنها لا تفقه في السياسة الدولية شيئاً، وجعلت من أوكرانيا مطيّة للولايات المتحدة وبريطانيا. بينما أكثرية الشعب، خصوصاً من الجيل الشاب، تُمجد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتضع صوره على الصدور وعلى زجاج ولوحات السيارات، وتُطلق عليه لقب "بطل أوكرانيا المخلص".

ما زالت صافرات الإنذار تُسمع بين حين وآخر، ولا يعني انطلاقها أن الصواريخ أو الأجسام العسكرية الجوية متجهة نحو العاصمة، بل عندما ترصدها الرادارات في سماء البلاد تنطلق الصافرات محذرةً السكان من خطر قادم.

في بداية الحرب، وفي شهريها الأول والثاني، كان الناس يتراكضون نحو الملاجئ عند سماعها، لكن اليوم تغيّر الوضع، ولا أحد يهرب أو يختبئ، ليبدو أن الناس تأقلموا مع أجواء الحرب. إذ لم يعد هناك ما يُخيفهم، خصوصاً أولئك الذين جربوا اللجوء داخلياً في غرب أوكرانيا، أو خارجياً في غرب أوروبا، ويتحدثون عن معاناة وذل واستغلال، لا سيما للنساء. لذلك، فإن العيش في منازلهم وسط مدينتهم أصبح الخيار الأفضل لدى أغلبهم.

هناك ظاهرة جديدة تُلاحظ في شوارع المدينة، وتحديداً في الممرات تحت الأرض؛ عجائز يتسولون ويحملون في أياديهم يافطات مكتوباً عليها "لا معيل لي... بقيت في كييف وحيدة ولا أملك قوت يومي، أتوسل إليكم مساعدتي".

اقتناع بحرب طويلة في أوكرانيا

قبل أيام، سقط عدد من الصواريخ الروسية في اثنتين من ضواحي كييف، وقالت وزارة الدفاع الروسية إنها أطلقت صواريخ على كييف ودمرت دبابات وعربات ‏مصفحة. هز القصف المدينة، إذ أصابت الضربات الصاروخية منطقتي دارنيتسكي ودنيبروفسكي.

ووفقاً لسلاح الجو الأوكراني، فقد تم إطلاق الصواريخ بعيدة المدى بواسطة قاذفات استراتيجية روسية في منطقة بحر قزوين، والتي تقع على بعد 850 ميلاً من وسط كييف. أعاد سقوط الصواريخ مشاهد الأسبوع الأول للحرب، لكن الهلع لم يعد ‏يُلاحظ على سكان العاصمة. لم يعد أحد ينزل إلى الملاجئ، وهذه ظاهرة تدل أيضاً على التأقلم والتغلب على الموت، أو أن الحياة والموت باتا لدى الأوكرانيين سيَّين.


لم يعد ‏يُلاحظ الهلع على سكان كييف، ولا أحد ينزل إلى الملاجئ عند سماع دوي سقوط صواريخ

لم تشهد كييف ضربات مماثلة منذ زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في 28 إبريل/نيسان الماضي. وبحسب صحيفة "دايلي ميل" البريطانية، يُعتقد أنها لن تكون الأخيرة في الوقت الحالي. هذا التقدير يبدو صحيحاً، فالحرب، كما يردد سكان العاصمة، لن تنتهي قريباً. تقديرهم مبني على عزيمتهم وإرادتهم وثقتهم بقيادتهم وما يشاع من أخبار عن تدمير وحدات وعتاد عسكري روسي، ومقاومة في شرق أوكرانيا وجنوبها.

العاطفة تجتاح الناس البسطاء في زمن الحرب، والإيمان بالنصر يخضع لاعتبارات لها علاقة بالتاريخ، وصبر الشعب الأوكراني، وسرعة التأقلم مع الأوضاع مهما تغيرت. لكن السياسيين منهم يرون أن وضع نهاية للحرب كلما كان أسرع كان ذلك أفضل لأوكرانيا، فالبلاد تتعرض للتدمير، وحياتها الاقتصادية توقفت، والملايين من شعبها باتوا لاجئين، وأوكرانيا هي التي تقاتل وحدها دولة تتفوق عليها بعشرات الأضعاف من القوة.

وعلى الرغم من حديث الغرب عن مساعدة أوكرانيا، فإن الأوكرانيين باتوا على قناعة بأنهم وقود المحرقة، بينما أوروبا كل همها رفاهية شعوبها، وهي تتلكأ في فرض عقوبات حقيقية على روسيا.

وما زالت مطارات كييف جميعها، المدنية والعسكرية، خارج الخدمة. لا طيران يرى في سماء كييف، ولا في غير كييف، إلا المُسيّرات والطائرات الحربية والمروحيات القتالية في شرق أوكرانيا وجنوبها. في خطابه الأخير، ربط بوتين بين حربه على أوكرانيا وحرب الشمال التي خاضها ‏بطرس الأكبر بداية القرن الثامن عشر ضد إمبراطورية السويد، وهذا يعني سعيه إلى استعادة ‏أراضي "بلاده الأصلية" في الزمن الإمبراطوري والزمن السوفييتي، حتى لو استمرت كما حروب بطرس الأكبر 21 عاماً.

يدل ذلك على وجود تصميم ‏روسي على تحقيق النصر الكامل، حتى لو استمرت الحرب على أوكرانيا سنوات طويلة. وإذا كان الأمر كذلك، فكييف التي يصنفها الروس أُماً للمدن الروسية، قد تصبح هدفاً مرةً أخرى.

روسيا تتقدم في الشرق والجيش الأوكراني يعلن أن ذخيرته تنفد. الولايات المتحدة وبريطانيا تريدان استنزاف روسيا، وروسيا تستنزف أوكرانيا، ومعها تستنزف العالم الغربي. وفي أفريقيا، سيشعر الملايين بالجوع. وإذا لم تتوقف الحرب وتعُد صادرات الحبوب الأوكرانية والروسية وغيرها، كما كانت في السابق، فنحن أمام مشهد فريد، حيث تدور رحى الحرب في الشمال، لكن عواقبها وآثارها تجتاح العالم بأكمله.