قيم الحركة الأسيرة وعناصر قوتها في مواجهة الفاشية

قيم الحركة الأسيرة وعناصر قوتها في مواجهة الفاشية

29 يناير 2023
قوات الاحتلال أثناء البحث عن أبطال نفق الحرية (أمير ليفي/Getty)
+ الخط -
تتجلى أهمية وقوة القيم النضالية والإنسانية الرفيعة التي يجسدها الأسرى الفلسطينيون، بصفتهم أسرى حرب ومقاتلين من أجل الحرية، في المواجهة المرتقبة مع حكومة نتنياهو السادسة، التي تضم في برنامجها وخطوطها العريضة وبين مركباتها عناصر وأحزابًا متطرفةً وفاشيةً، تتوعد بشن هجومٍ شاملٍ ضد الأسرى، تجسد القيم النقيضة لتلك التي يمثلها الأسرى ويحملونها، ليكتسي هذا الصدام الميداني؛ ببعديه السياسي والقانوني، بعدًا إضافيًا، يحوله إلى صدام قيمي وأخلاقي، يستمد جذوره من المنظومة التي يمثلها كل طرف من الطرفين المتصارعين.
مكانة الحركة الفلسطينية الأسيرة السامية ورمزيتها العالية وهالة الاحترام التي تقارب القدسية لدى عموم فئات الشعب الفلسطيني؛ ولدى أحرار العالم كذلك، إضافة إلى عناصر القوة الكامنة فيها؛ من كم المناضلين الكبير، والحالات البارزة وطنيًا وكفاحيًا، والتجربة العريقة والطويلة، التي عاشتها وراكمتها عبر عقود طويلة من النضال الاعتقالي، إلى جانب النموذج الوحدوي والصلابة التي تتمتع بها، تضعها في موقع التفوق الأخلاقي والميداني، في مواجهة الحملة التحريضية والإجراءات التنكيلية التي يعتزم وزير الأمن القومي الإسرائيلي الفاشي إيتمار بن غفير شنها ضدها.
مهّد وزير الاحتلال العنصري بن غفير لحملته العدوانية ضد الأسرى، بخطاب تحريضي شعبوي، وحملة شيطنة الأسرى، وشعارات معادية لهم، اختزلت في داخلها كل ما يكنّه الرأي العام والمجتمع في دولة الاحتلال من مشاعر عداء وكراهية تجاه الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، ونضاله الوطني التحرري، في مقدمته الفئة الأكثر تقدمًا في هذا النضال؛ الأسرى الفلسطينيون، ممهداً الطريق لحرب شاملة وضع لها هدفين متزامنين.

أعادت الحركة الأسيرة صياغة نفسها وأعادت بلورة هويتها، رغم ما شهدته من منعطفاتٍ خطرةٍ؛ مثل اتفاق أوسلو والانقسام بين غزة والضفة

الأول؛ العمل على جعل ظروف اعتقال الأسرى أكثر سوءًا، وسحب كثير من المكتسبات والإنجازات، التي حققها الأسرى وراكموها جيلًا بعد جيل، على مدار سنوات اعتقالهم الطويلة، دافعين ثمنها أطنانًا من اللحم والدم والعرق، في إضراباتٍ جماعيةٍ باسلةٍ عن الطعام، ارتقى فيها شهداء وقادة وكوادر وأسرى، ما زالوا خالدين في ذاكرة شعبهم، أمثال عبد القادر أبو الفحم وأنيس الدولة.
يتمثل الهدف الثاني في سن تشريعات وقوانين في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)؛ الذي يهيمن عليه اليمين واليمين المتطرف، تعمل على تشديد العقوبات والأحكام الصادرة بحق الأسرى في المحاكم العسكرية والمدنية، كذلك في إدراج عقوبة الإعدام، ضمن سلم العقوبات القائمة حاليًا، التي تستند إلى أحكام عرفية وأوامر عسكرية وتشريعات عنصرية تتناقض مع القانون الدولي الإنساني، وكذلك مع اتفاقيات جنيف، ومع ما توصلت إليه البشرية من تشريعات واتفاقيات دولية ملزمة، تعلي من إنسانية الإنسان وحقوقه الأساسية.
يستنفر هذا الاستهداف؛ الذي يلتف حوله مجتمع الاحتلال ومؤسساته (القضاء والكنيست) ومنظومته الأمنية، كل طاقات وإمكانيات الأسرى؛ المادية والمعنوية، بغرض حسم هذه الجولة لصالحهم عبر التصدي لهذه الهجمة، ومراكمة مدماك آخر في مواجهة الاحتلال، والمضي قدمًا نحو الحرية والتحرر.

جذور المواجهة التاريخية

لا تعتبر الهجمة الحالية؛ التي يتزعمها بن غفير، حالة منفصلة عن تاريخ الصراع الطويل بين مديرية مصلحة السجون؛ ذراع سلطات الاحتلال وأجهزتها الأمنية القمعية التنفيذي، وبين الحركة الأسيرة كونها الامتداد الكفاحي والنضالي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، بل هي تعبيرٌ مكثفٌ ومصغرٌ عن المرحلة التي وصل إليها الصراع وطبيعته وأدواته.
يكمن جذر الاضطهاد الواقع على الأسرى الفلسطينيين في التعريف الذي يصنفهم الاحتلال به، الذي يستمد منه الاحتلال "شرعية" الإجراءات القاسية والظروف المعيشية المنافية لأبسط حقوق الإنسان، والأحكام والقوالب التي يوضع الأسرى بها، بعيدًا عن معايير القانون الدولي الإنساني والمرجعيات التي يفترض بها ضبط العلاقة بين المُحتل والشعب الذي يرزح تحت وطأة احتلاله.
تستبيح دولة الاحتلال الأسرى الفلسطينيين وتجردهم من أبسط حقوقهم، بدعوى أنهم (إرهابيون) و(مخربون) لا يحق لهم التمتع بحماية القانون الدولي، تبيح بذلك لنفسها إخضاعهم لمحاكمات شكلية غير عادلة، وسجنهم سنواتٍ وعقوداً طويلةً، في ظل شروط اعتقال غاية في القسوة.
في المقابل حدد الأسرى الفلسطينيون؛ منذ بدايات عهدهم في السجون، هويتهم النضالية والإنسانية؛ المستمدة من القيم والمُثل التي يجسدونها، كما تجسدها حركة نضال شعبهم الفلسطيني، إذ اعتبروا أنفسهم مقاتلين من أجل الحرية وأسرى حرب.

 تتجلى أهمية وقوة القيم النضالية والإنسانية الرفيعة التي يجسدها الأسرى الفلسطينيون، بصفتهم أسرى حرب ومقاتلين من أجل الحرية

الصدام القيمي والأخلاقي والسياسي، بتعبيراته المادية المباشرة؛ المتمثلة في الأسير والسجان، رسم معالم الصراع خلف جدران السجون، كما حوله إلى صراعٍ يوميٍ على الإرادة والوعي والهوية، يدار بأدوات العنف والتنكيل من جانب السجان، والصمود والروح الجماعية والإبداع وعدم الاستسلام من طرف الأسرى.
في ظل هذا الصراع تشكلت الحركة الأسيرة، التي وضعت وأرست أسس تنظيم داخلي جماعي يحاكي في بنيته وشكله ومضمونه ولغته وخطابه منظومة القيم والأهداف التي تجسدها، والرسالة التحررية الإنسانية التي تحملها على عاتقها.
هذه الرمزية والحالة التي تكثف فيها الصراع في بؤرة ضيقة ومحصورة، لم تتعامل مع كل إنجاز مطلبي يحققه الأسرى على اعتباره هدفًا بحد ذاته، أي لا يرمي إلى التكيّف مع السجن والقبول به، بل على اعتباره خطوة إضافية تراكم الإنجازات الكمية، من أجل جعل شروط الاعتقال أقل قسوةً وتوحشًا، بما يرتقي إلى إنسانية الأسرى، وصولًا إلى مرحلة تفرض على الاحتلال الاعتراف بهم كأسرى حرب، أمرًا واقعًا يسلم به السجان.
تأسست بنية الحركة الأسيرة؛ في وعيها لذاتها وبنية تنظيمها الداخلي وهرميتها وفي أدبياتها وأهدافها، على ركيزةٍ معنويةٍ وماديةٍ راسخةٍ، تتمثل في كونها امتدادًا كفاحيًا عضويًا؛ ذا خصوصيةٍ فريدةٍ، لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، تخوض معركة تحريرٍ مستمرةٍ من أجل الحرية وتقرير المصير والعودة. أي باتت تؤثر وتتأثر بها وبمسار تقدمها، تستمد القوة منها ومما تحققه من انتصاراتٍ دبلوماسيةٍ وسياسيةٍ، وترفدها بعناصر مجرّبةٍ ومهيَّأةٍ وقادرةٍ على الاستمرار في دروب النضال، الأمر الذي حولها؛ عمليًا، إلى حلقةٍ من حلقات الكفاح الوطني، وحول السجون إلى ساحة مجابهة إضافية، تشبه مدارس الكادر وأكاديميات تخريج القادة.
هذا الربط الخلاق بين اليومي المعيشي والوطني التحرري، أسبغ نضال الأسرى بطابعٍ تحرريٍ، حتى عندما كانت مطالبهم متواضعة وتتعلق بشروط وظروف اعتقالهم.
لم تغفل مصلحة السجون التابعة للاحتلال عن هذا الربط، بل سعت إلى كسر هذه الحلقة، لإدراكها أنها تمثل الحلقة المركزية في المواجهة، وعامل القوة الذي يوحد الأسرى ويحولهم من أفراد إلى جيش ومجموعة منظمة ذات أهداف وقيم مشتركة.

أوسلو؛ مرحلة الوهن!

فشلت جميع محاولات سلطات الاحتلال في كسر إرادة الأسرى، لكن المسار الصاعد الذي أخذته حركة الأسرى؛ منذ نهاية الستينيات في القرن الماضي، والإرث النضالي والمعرفي والوطني الذي راكموه، تعرض لضربةٍ موجعةٍ، أصابت جسد الحركة الأسيرة بالوهن والضعف، وأدت إلى تراجع مكانتها، تمثلت الضربة في اتفاقيات أوسلو.
أخلت اتفاقيات أوسلو؛ التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993 مع حكومة الاحتلال، بالتوازن الحساس بين الطبيعة المطلبية لنضالات الأسرى وعمقها التحرري المرتبط بمسار الثورة، إذ أدى قيام السلطة وعودة القيادة إلى أرض الوطن؛ دون تحقيق المطالب الأساسية من زوال الاحتلال وتحرير الأسرى والعودة وتقرير المصير، إلى إصابة الأسرى بخيبة الأمل، كما تراجعت مكانة التنظيمات وشعاراتها وبرامجها، تبعها حالة الانضباط التي ميزتهم. أي بدأت رحلة التيه والبحث عن الخلاص الفردي، واللحاق بركب الدولة التي لم تقم، والقيادة التي تركتهم خلفها في زنازينهم، يعانون من أزمة هوية حول معنى وجودهم وعلاقتهم بسجانهم، الذي يصافح قادتهم.

حدد الأسرى الفلسطينيون؛ منذ بدايات عهدهم في السجون، هويتهم النضالية والإنسانية؛ المستمدة من القيم والمُثل التي يجسدونها، كما تجسدها حركة نضال شعبهم الفلسطيني

لم يحرر اتفاق أوسلو الأسرى، ولا أنصفهم معنويًا، ولا أعاد لهم الاعتبار، من خلال إجبار الاحتلال على الاعتراف بهم أسرى حرب، بل عمق من أزمتهم، إذ فرض تقسيماتٍ ومعايير جديدة للإفراج عنهم، قسمتهم إلى فئات حسب التهمة أو المنطقة الجغرافية (قدس وداخل محتل عام 1948 ومناطق محتلة عام 1967 تنقسم بدورها إلى ضفة غربية وقطاع غزة)، والانتماء الفصائلي والسياسي (معارض أم مؤيد للاتفاق)، ما أخل بتركيبة السجون؛ خاصة مع بروز دور الحركات الإسلامية، التي شنت سلسلة من العمليات، وخاضت مواجهة مع الاحتلال، بهدف إسقاط اتفاق أوسلو، الأمر الذي أدى إلى دخول الآلاف من عناصرها السجون، ممن لم يتشبعوا تجربة الحركة الأسيرة العريقة، ولا يتقاطعون معها ومع خط فصائل منظمة التحرير، التي أسستها وأرست قواعدها أيديولوجيًا وفكريًا.

قانون الصراع يفرض نفسه مجددًا

يمكن اعتبار العقد الأخير من سنوات التسعينيات عقد التراجع والضعف والارتباك السياسي والتنظيمي في تاريخ الحركة الأسيرة، لقد كان عقدًا مرهقًا نفسيًا ومعنويًا، ساده التمزق وضياع البوصلة، لكنه أثبت أن قانون الصراع والقواعد التي بنيت عليها الحركة الأسيرة، أكثر رسوخًا من وهم السلام الذي ساقه اتفاق أوسلو.
مع بداية الألفية الجديدة، كان اتفاق أوسلو قد استنفد مداه الزمني (اتفاق انتقالي لخمس سنوات)، كما بلغت حالة الغليان ذروتها، التي تمخضت عن اندلاع انتفاضة الأقصى، التي أعادت زخم النضال الوطني التحرر وروحه، الذي سرعان ما امتد إلى ساحات السجون، من خلال آلاف المناضلين الذين اعتقلهم الاحتلال، ومن الروح الجديدة التي سرت في الجسد الفلسطيني عامةً.
استعاد الأسرى عافيتهم، وأعادوا صياغة واقعهم، كما استوعبوا التغيرات السياسية، التي طرأت على بنيتهم بعد دخول الحركات الإسلامية، وخاضوا نضالات مكنتهم من الصمود في وجه حملات رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ أرئيل شارون، التي وجهها ضدهم، وسلط فيها وزير أمنه الداخلي الفاشي؛ تساحي هنجبي، عليهم، الذي اعتبر حربه عليهم جزءًا من الحرب على (الإرهاب) وعلى الانتفاضة الفلسطينية.
منذ ذلك الحين أعادت الحركة الأسيرة صياغة نفسها وأعادت بلورة هويتها، رغم ما شهدته من منعطفاتٍ خطرةٍ؛ مثل اتفاق أوسلو والانقسام بين غزة والضفة، إذ حافظ الأسرى على كونهم إطارًا موحِدًا يحظى بالإجماع ويمثل بوصلة الحرية.

مواجهة الفاشية المتجددة

تقف الحركة الأسيرة في المواجهة الحالية؛ التي يفرضها بن غفير وحكومة الاحتلال الفاشية التي ينتمي إليها، على أرضية صلبة، تتفوق فيها أخلاقيًا وإنسانيًا، مستندةً إلى إرثٍ نضاليٍ عريقٍ وتجربةٍ طويلةٍ، أمدتها بطول النفس والحنكة والمكانة المرموقة؛ تقترب من القدسية، لدى شعبهم الفلسطيني وأحرار العالم، تؤهلها لأن تخوض هذه المعركة باقتدار، يحقق انتصارًا إضافيًا يراكم من إنجازاتها، بما ينعكس إيجابيًا على الشعب الفلسطيني، ويعيد له الثقة بنفسه، ويحضه على الوحدة، ويبث روحًا جديدةً تعيد الاعتبار لمطلبه التحرري، ونضاله العادل، في وجه الفاشية والاستعمار، من أجل الحرية والاستقلال.