قراءة في قرار برلمان جنوب أفريقيا خفض مستوى العلاقات مع إسرائيل

قراءة في قرار برلمان جنوب أفريقيا خفض مستوى العلاقات مع إسرائيل

26 مارس 2023
مظاهرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني في جنوب أفريقيا (أليت بريتوريوس/Getty)
+ الخط -

قرر برلمان جنوب أفريقيا، أوائل شهر مارس/آذار الجاري، خفض مستوى العلاقات مع إسرائيل إلى مكتب ارتباط، علماً أن الدولة المدنية الديمقراطية الوحيدة في أفريقيا؛ بالمعنى الحقيقي للكلمة، كانت قد سحبت سفيرها من تل أبيب بعد مجزرة مسيرة العودة في غزة 2018، وخفضت مستوى العلاقات التي تدار الآن عبر قائم بالأعمال.

يمكن قراءة قرار البرلمان الأفريقي؛ الذي نال أغلبية دستورية وديمقراطية واسعة تجاوزت الثلثين، من زاويتين: الأولى خاصة بجنوب أفريقيا ومقاربتها للقضية الفلسطينية، ونظرتها للاستعمار الإسرائيلي الأخير في العالم. وأخرى دولية، تتعلق بتسارع وتيرة مقاطعة الدولة العبرية، وخفض مستوى العلاقات معها، كما رأينا في قرار مدينة برشلونة، عاصمة إقليم كتالونيا الشهر الماضي، والدعوات المتصاعدة في بلجيكا ودول أوروبية أخرى إلى فرض مقاطعة رسمية ومنهجية على بضائع المستوطنات غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأخيرا التظاهرات الشعبية في إندونيسيا الأسبوع الماضي، رفضا لمشاركة المنتخب الإسرائيلي في كأس العالم لكرة القدم للشباب التي تستضيفها البلاد الشهر القادم.

 

عدالة القضية نفسها، وصمود الفلسطينيين الأسطوري، ومنسوب التعاطف معهم، كان ولا يزال أعلى بكثير من المستوى المتدني والسقف المنخفض للقيادة الفلسطينية الرسمية الحالية

تملك جنوب أفريقيا علاقة تاريخية خاصة مع فلسطين، تعود في جانب منها إلى موقف منظمة التحرير الفلسطينية المناهض لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ودعمها لنضال الجنوب أفريقيين، كما تستند إلى مقولة/ قاعدة الزعيم المؤسس نيلسون مانديلا الشهيرة "حريتنا لن تكتمل دون حرية فلسطين"، الدولة التي عانت من نظام الفصل العنصري، وانتصرت عليه بسلسلة من وسائل النضال الشعبي؛ سلمية في معظمها، كانت من أوائل الدول والجهات والمؤسسات التي انتبهت إلى اتباع إسرائيل لنظام فصل عنصري ضد الشعب الفلسطيني، أشد بشاعة وقسوة من ذاك الذي عانت منه لعقود طويلة؛ حسب تعبير أحد الدبلوماسيين الأفارقة.

 

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

من الملفت للنظر نيل مشروع القرار؛ الذي قدمه أحد الأحزاب الصغيرة "حزب الحرية الوطني"، تأييد أغلبية واسعة، فاقت ثلثي ممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطياً، على رأسهم بالطبع نوّاب حزب مانديلا؛ المؤتمر الوطني الحاكم منذ تفكيك نظام الفصل العنصري.

القرار البرلماني غير ملزم للسلطات الرسمية، لكنه ذو دلالةٍ ديمقراطيةٍ وسياسيةٍ ومعنويةٍ كبيرةٍ، وسيمثل بالتأكيد عامل ضغط على الحكومة، لتبنّيه وتنفيذه رسمياً، وبالحد الأدنى التشدد أكثر في العلاقة مع الدولة العبرية، علماً أنها كذلك فعلاً. كما يرسل من جهة أخرى رسالة دعم متعددة المستويات، سياسيا وإعلاميا ونفسيا للشعب الفلسطيني، عنوانها الكبير "لست وحدك، نحن معك في المعركة العادلة من أجل هزيمة نظام الفصل العنصري البشع والبغيض".

في السياق نفسه؛ لا بد من الإشارة إلى أن الدولة المدنية الديمقراطية؛ بكل ما تملكه من حضورٍ وهيبةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ ومعنويةٍ، وقفت رسمياً، بمساعدة الجزائر ودول أخرى، بحزمٍ وصلابةٍ أمام محاولات تسلل إسرائيل إلى القارة الأفريقية، عبر علاقات ثنائية مع بعض الدول الأفريقية، أو عبر نيل درجة مراقب في الاتحاد الأفريقي، كما وقفت مباشرةً خلف مشهد طرد الوفد الإسرائيلي؛ المهين والمدوّي، حين حاول التسلل إلى مؤتمر الاتحاد المنعقد في أديس أبابا الشهر الماضي.

تسارع وتيرة مقاطعة الدولة العبرية، وخفض مستوى العلاقات معها، كما رأينا في قرار مدينة برشلونة، عاصمة إقليم كتالونيا الشهر الماضي

لا بد من الانتباه كذلك إلى عجز الآلة الدعائية الإسرائيلية عن مواجهة جنوب أفريقيا وسياستها ومواقفها الأخلاقية والعادلة والمتوازنة، إذ لا يمكن اتهامها بالاستبداد أو دعم الإرهاب أو الازدواجية في تعاطيها مع القضايا الدولية المختلفة.

الاستنتاج الآخر مفاده؛ أننا لسنا بحاجة لاستبداد وقهر الشعوب وسلبها حريتها بذريعة الدفاع عن الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، كلما اتسعت مساحة الديمقراطية والحرية التي زادت من مساحة التعاطف والمساندة للقضية الفلسطينية، كما نرى في النموذج الأفريقي المدني الديمقراطي المتقدم، من خلال هذا التساوق الكبير بين الموقفين الشعبي والرسمي.

في السياق الأممي؛ أتت خطوة جنوب أفريقيا بعد قرار مدينة برشلونة وقف العمل باتفاقية التوأمة مع مدينة تل أبيب؛ عاصمة الدولة العبرية، ومقاطعتها كلياً، بسبب ممارساتها غير الشرعية بحق الشعب الفلسطيني.
 

في كل الأحوال، ثمة خلاصات مهمة يجب التركيز عليها، أهمها تكريس حقيقة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وفق تقارير ودراسات المنظمات الحقوقية الدولية المرموقة، وبالتالي ضرورة محاسبتها ومقاطعتها من قبل المجتمع الدولي، علماً أن المحاسبة والمقاطعة كانت أحد أهم أسباب تفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، إضافة بالطبع إلى الصمود الشعبي الأسطوري ونضاله لعقودٍ متواصلةٍ.

إلى ذلك، بات جلياً تماماً أن مقاطعة إسرائيل تكبر مع الوقت، ما يعطي أهمية إضافية لقرار جنوب أفريقيا، وقبله لقرار بلدية برشلونة باسم الإقليم التاريخي والمركزي، ما يعني أيضاً تشجيع جهات ومؤسسات شعبية أخرى على اتخاذ خطوات لمعاقبة ومقاطعة إسرائيل، انتقال السيرورة إلى المستوى الرسمي مسألة وقت فقط، فهي ترجمةٌ منطقيةٌ للمواقف الشعبية المتصاعدة، والرأي العام الرافض لسياسات الدولة العبرية العنصرية بحق الشعب الفلسطيني.

ثمة عوامل أخرى تساعد على دفع مزيد من الهواء في أشرعة مقاطعة إسرائيل، منها حكومة نتنياهو- سموتريتش- بن غفير، الأكثر تطرّفاً، التي رفعت القناع وأزالت مساحيق التجميل عن وجه الدولة العبرية البشع والبغيض وعن سياساتها.

تسارع وتيرة مقاطعة الدولة العبرية، وخفض مستوى العلاقات معها، كما رأينا في قرار مدينة برشلونة، عاصمة إقليم كتالونيا الشهر الماضي

إضافة إلى ما سبق؛ هناك القضية المثارة أمام محكمة العدل الدولية، وطلب الفتوى القانونية في مسألة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، الذي بات مستداماً وبمثابة ضم فعلي. علماً أن المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وافقت أيضاً على النظر في الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، وحتى تلك التي احتلت في عام 1948.

في الأخير، وكما في القرار الكتالوني، كانت هيئة مقاطعة إسرائيل BDS حاضرة في القرار الأفريقي، وفي تظاهرات إندونيسيا الشعبية، وفي أماكن أخرى حول العالم، مع التأكيد دائماً على أهمية تشكيل مرجعية فلسطينية توافقية عليا، لقيادة النضال وحشد الطاقات في مواجهة نظام الفصل العنصري، لأن عدالة القضية نفسها، وصمود الفلسطينيين الأسطوري، ومنسوب التعاطف معهم، كان ولا يزال أعلى بكثير من المستوى المتدني والسقف المنخفض للقيادة الفلسطينية الرسمية الحالية.