عن تعاطف وتقبُّل الرواية الفلسطينية عربياً ودولياً

عن تعاطف وتقبُّل الرواية الفلسطينية عربياً ودولياً

30 يناير 2022
رفض للتطبيع العربي (سعيد الخطيب/فرانس برس)
+ الخط -

لعلّ من حسنات العامين الماضيين ازدياد التعاطف وتقبّل الرواية الفلسطينية عربياً ودولياً. حصل هذا في السياق العربي رغم أو ربما بسبب الترويج الواسع لموجة التطبيع الإبراهيمية كنتاج مباشر لتمكن الثورة المضادة عربياً التي تقربت بل تحالفت مع  إسرائيل سرّاً وعلانية، في سياق شيطنة الفلسطينيين وإزاحة قضيتهم عن جدول أعمالها، باعتبارها سببًا أو أحد أسباب الثورة الأصيلة ضد منظومة الاستبداد والفساد ومظهر ومَعْلم من معالمها. أما دولياً فلم يختف التعاطف مع الفلسطينيين يوماً ربما ضعف أو تراجع بشكل ما، ولكن عادت الظاهرة بشكل قوي وواضح خلال الشهور الماضية مع هبّة القدس في باب العامود والشيخ جرّاح في أبريل/نيسان، ثم معركة سيفها مايو/أيار، مع إعادة الاعتبار لشعار التعاطف الشهير "التضامن فعل"، وصياغة آخر جديد لا يقل إبداعاً مفاده أنك لست بحاجة كي تكون مسلماً لتتعاطف مع الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي وممارساته بل يكفي أن تكون إنساناً فقط.

أثارت موجة التطبيع الإبراهيمية التي قادتها أبوظبي ردود فعل شعبية جارفة ورافضة، ومع احترام وتقدير ردّ فعل الجماهير البحرينية التي تظاهرت لأسبوع تقريباً ضد زيارة وزير الخارجية الإسرائيلية يئير لبيد إلى المنامة، بينما لا يسمح طبعاً بالتظاهر في الإمارات التي لم تجد حكومتها سوى طالب واحد مستعد للسفر والدراسة في إسرائيل أمام العناد الشعبي ضد التطبيع وحصره في السياق الرسمي. كما يعيش الأردن أجواء شعبية مشابهة أيضاً ضد التطبيع لجهة إبقائه في النطاق الرسمي الضيّق، بل ووضعه في سياق معارضة النظام والمطالبة بإصلاحات دستورية وسياسية تمنعه من التفرد بسياسات وقرارات ضد المزاج الشعبي، إلا أن ثمة مثالا أو نموذجا مغربيا سيتم التركيز عليه هنا كعنوان للقصة كلها، دون أن يعني ذلك طبعاً تجاهل انتفاضة 37 مدينة مغربية في يوم واحد ضد التطبيع نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وعجز الممثل أو السفير الإسرائيلي لشهور عن استئجار منزل خاصّ له، في تكرار للمشهد الشهير بفيلم السفارة في العمارة.

الموجة الحالية للتضامن مع فلسطين شهدت إعادة الاعتبار لشعار "التضامن فعل"

النموذج يتعلق بالمغربية المقدسية الحاجّة عائشة المصلوحي، ويكاد يختصر تاريخ التعاطف العربي الإسلامي، كما المزاج المغربي العنيد الرافض للتطبيع أو التخلي عن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية أهلها فقط. الحاجّة المصلوحي هي سيدة مغربية مقدسية من مواليد حي المغاربة بالقدس الذي بناه الناصر صلاح الدين الأيوبي، قبل أكثر من ألف عام، للمجاهدين المغاربة في صفوف جيشه الظافر الذي دحر الصليبيين من المدينة المقدسة وفلسطين بشكل عام.

عبر التاريخ تحوّل الحي إلى رمز للحضور المغاربي في القدس مع باب للمدينة يحمل اسمه وزاويته الشهيرة، التي كانت تقوم على خدمة الحجاج المغاربة ممن يقدّسون حجتهم بعد الانتهاء من مشاعر الحج بالأراضي الحجازية المباركة.

هدمت إسرائيل الحي بعد نكبة حزيران/ يونيو 1967 مباشرة لطمس المعالم والدلالات السابقة، وفي سياق الترويج لوهم حائط المبكي والحضور اليهودي بالمدينة المقدسة الذي لم تؤكده أي من الأبحاث الأثرية العلمية الموثوقة بما فيها تلك الإسرائيلية.

بعد النكبة الثانية وهدم الحي هَجَّر الاحتلال أهله وعائلاته من المغاربة المقدسيين في ربوع فلسطين والمنطقة بينما لجأت عشر منها مثل عائلة المصلوحي للإقامة المتواضعة في الزاوية التي كانت تقوم أساساً على خدمة الحجّاج والزوّار المغاربة.

سيكون العام الحالي عام تكريس صورة إسرائيل في العالم دولة تتبنى رسمياً سياسة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين وهو ما حذّر منه فعلاً وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد

الحاجة المصلوحي، السبعينية المولودة لأب مغربي، استقرت في القدس قبل النكبة، وأمّ مقدسية تعرّف نفسها كمغربية فلسطينية مقدسية مرابطة في المسجد الأقصى دفاعاً عنه، قامت بزيارة إلى المغرب خلال الأسابيع الماضية، وكانت مناسبة للاحتفاء بها وتكريس الرواية المغربية الشعبية عن الدعم المغربي التاريخي لفلسطين وقضيتها مقابل التطبيع الرسمي الذي بدا كأنه يتجاوز الإمارات أحياناً - جيد أنه بَرُدَ في الفترة الأخيرة لعوامل عدة منها ما نخطه هنا - مع محاولات يائسة وعبثية لدرجة خلق روايات وسرديات بديلة تتضمن علاقة النظام مع الجالية اليهودية المغاربية في فلسطين المحتلة.

في كل الأحوال تمثل السيدة المصلوحي تجسيداً عملياً لمقولة التاريخ يمشي على الأرض، كما عنواناً للمزاج الشعبي الصامد والعنيد في مواجهة الاحتلال والتطبيع، وتأكيداً للحضور المغربي التاريخي والممتد في القدس والقضية الفلسطينية.

خلال الفترة نفسها شهدنا كذلك ارتفاعا في منسوب التعاطف الدولي مع الفلسطينيين، وتقبل روايتهم عما يجري في الأراضي المقدسة، تحديداً أثناء هبة القدس في باب العامود وحي الشيخ جراح ثم معركة سيفها، وهو ما رأيناه في الساحات العامة كما في ميادين الرياضة ومنابر الفن والثقافة.

تم نحت شعار رائع في تلك الساحات والميادين العالمية، مفاده أن لا حاجة لتكون مسلماً كي تتعاطف وتتضامن مع القضية الفلسطينية، يكفي فقط أن تكون إنساناً فيما بدا ردّا عبقريا على عبارة الرئيس الأميركي جو بايدن الشهيرة القائلة إنه لا حاجة لتكون صهيونيا كي تتعاطف مع إسرائيل وتدعمها.

الموجة الحالية شهدت إعادة الاعتبار للشعار التاريخي للتعاطف مع الشعب الفلسطيني "التضامن فعل"، كما رأينا مع بطلة سلسة أفلام هاري بوتر الممثلة الإنكليزية، إيما واتسون، وكما فعل ممثلون ومخرجون وموسيقيون ومشاهير كثر في عاصمة السينما العالمية هوليود.
في نفس الفترة شهدنا أيضاً مقاطعة واسعة من فرق وشخصيات ثقافية وفنية وإعلامية لمهرجان سيدني المسرحي بسبب تلقّيه دعماً مالياً من السفارة الإسرائيلية في أستراليا، ما مثّل تعبيراً دولياً واضحاً عن التعاطف والتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

وفاة كبير أساقفة جنوب أفريقيا القس، ديزموند توتو، ديسمبر/كانون الأول الماضي، كانت مناسبة أيضاً لتجديد التضامن مع القضية الفلسطينية في مواجهة نظام فصل عنصري تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني تماماً، كالذي ناضل توتو ضده طوال حياته حتى إسقاطه في جنوب أفريقيا قبل عقدين.

وعلى صلة وبناء على ما سبق، سيكون العام الحالي عام تكريس صورة إسرائيل في العالم دولةً تتبنى رسمياً سياسة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، الأمر الذي حذّر منه فعلاً وزير الخارجية الإسرائيلي، يئير لبيد، وهو تحذير ليس بعيداً عن الواقع بأي حال من الأحوال.

أخيرا، لا بد من التذكير بحقيقة أن المعطيات والإنجازات السابقة حصلت بالحد الأدنى أو للدقة، بجهود فردية أو حتى جماعية متناثرة هنا وهناك، وفي غياب الإطار المرجعي والقيادة الفلسطينية الموحدة، والمفارقة هنا، ورغم التعاطف الشعبي العربي والدولي الكبير، إلا أن القيادة الرسمية نفسها مطبّعة، بل وللأسف متورطة في تبييض صفحة الاحتلال على طريقتها الخاصة، ولو من خلال مواصلة التنسيق الأمني واللقاءات الاقتصادية والاجتماعية مع مسؤوليه وقادته التي تعتقد أو تتوهم أنها سياسية.

وعموماً وفي كل الأحوال وبسبب عدالتها أساساً، وصمود وعناد أهلها وإخوتهم وأصدقائهم الأسطوري، كما بشاعة الاحتلال وممارساته العنصرية الإجرامية، كانت القضية الفلسطينية ولا تزال عصية على التجاهل والنسيان أو الإزاحة عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي. 
 

المساهمون