طوفان الأقصى: إحياء أيزنهاور وفورد واعدام ماو تسي تونغ

طوفان الأقصى: إحياء أيزنهاور وفورد واعدام ماو تسي تونغ

29 أكتوبر 2023
تشانغ جون ممثل الصين الدائم لدى الأمم المتحدة 03/08/2023 (ليف رادين/Getty)
+ الخط -

في ظلّ التحالف الغربي الداعم لإسرائيل، في حرب الإبادة الجماعية على غزّة، تأمل الأكثرية الفلسطينية في أن تمارس الصين دورًا كبيرًا لوقف العدوان على قطاع غزّة. وهو اعتقادٌ مقبولٌ نظريًا، وقائمٌ على معطياتٍ تتعلق بإسرائيل، وأخرى بالصين. ستقدّم الكاتبة في هذه المقالة مبررات هذا الاعتقاد، وستضع مقابلها ما يفندها، وفقًا لواقع الدور الصيني تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وموقفها من الأزمة الحالية.

في ما يتعلق بالمعطى الإسرائيلي، قدّمت الصين لإسرائيل خلال الثلاثين عامًا السابقة ما قدّمته لها الدول الغربية مجتمعةً منذ عام 1948، من شرعية وجودٍ ودعم بعض السياسات المتعلقة بالصراع. فمثلًا، حصلت إسرائيل على اعترافٍ صيني بأنّها تمثّل يهود العالم، مُضفيةً بذلك شرعيةً على وجودها كدولةٍ يهوديةٍ، ما يعني أنّ الصين لا تعارض هجرة اليهود إلى فلسطين. نضيف على ذلك، شرعنة الصين الوجود الاستيطاني، عبر استثمارٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ في المستوطنات، أو إقامة علاقاتٍ تجاريةٍ واستثماريةٍ واسعةٍ مع أكثر من 27 شركةٍ، أثبتت تقارير الأمم المتّحدة أنّها تستثمر مباشرةً في المستوطنات. وتعتبر يهودية "الدولة" الإسرائيلية، والمستوطنات جوهر المسألة الفلسطينية في الوقت الحاضر، وبالتالي فإنّ إسرائيل لن تجازف بهذه الإنجازات، وسترضخ للمطالب الصينية إذا ما أرادت الصين استخدامها للضغط عليها لوقف عدوانها، أو تخفيضه.

أما المعطى الصيني، سعت الصين منذ عام 2013 إلى تعزيز وجودها في الشرق الأوسط، للحصول على "قبول" دول الإقليم تحديدًا. وبالرغم من أنّ ارتباطها الاقتصادي والعسكري والثقافي مع إيران وإسرائيل وتركيا أقوى بكثيرٍ من الدول العربية مجتمعةً، إلّا أنّها تحاول دائمًا الحفاظ على صورتها كدولةٍ داعمةٍ للقضايا العربية، وأهمّها القضية الفلسطينية، ولذلك تطلق الصين عليها "جوهر القضايا". تعي الصين جيدًا أنّ القضية الفلسطينية، على المستوى الشعبي العربي على الأقلّ، ما زالت أهمّ القضايا، ولذلك دائمًا ما تقدّم خطابًا للجمهور العربي تخص به فلسطين. ففي لقاء شي جين بينغ مع رؤساء الدول العربية في السعودية في ديسمبر/ كانون الأول 2022، ألقى خطابًا تحدّث فيه عن قضايا الأمة العربية عامّةً، ولكنه خص فلسطين قائلًا "لا يمكن أن يستمر الظلم التاريخي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني إلى أجلٍ غير مسمى". وبالتالي، لعب الصين لدورٍ أكبر سيكون لصالح تعزيز مكانتها اقليميًا، مقارنةً بزيادة عداء الشعوب العربية للغرب، وخاصّةً أميركا.

أيضًا، تمتلك الصين أدوات ضغطٍ مؤثرةً على إسرائيل، أهمّها الاقتصاد. سيقول بعضهم إنّه من الأولى أن تستخدم الدول العربية، وحتّى السلطة الفلسطينية، هذه الأدوات للضغط على إسرائيل وليس الصين. الجواب هنا بأنّ الصراع الحالي قد دُوِّلَ، ولأوّل مرّة في تاريخ إسرائيل تحصل على هذا الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي في حربٍ لها مع الفلسطينيين وحدهم. وبالتالي، وفي هذه المرحلة من تدويل الصراع، نحن بحاجةٍ لطرفٍ دوليٍ قويٍّ، أبعد من العرب، منافسٍ للغرب، ومناهضٍ للهيمنة، وليس روسيًا. فعلى الرغم من أهمّية الدور الروسي، ولكن الصين في المنظور الكلّي والواقعي لم ترتكب جرائم حربٍ، ولم تحتل دولًا أخرى. وموقف الصين المناهض للموقف الغربي يخدم مكانتها الجديدة، ويثبت محاربتها للهيمنة الغربية في المجال السياسي، ويعزز انتقادها الدائم أيضًا لدور واشنطن في تغذية الصراعات الدولية.

تحوّل الموقف الصيني تدريجيًا تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، من الدعم الراديكالي لإزالة إسرائيل، إلى دعم يهودية الدولة

ولكن، هناك وجهٌ آخرٌ واقعيٌ يتناقض مع الرغبات السابقة. يشير هذا الواقع إلى خمس أسباب تجعل من دور الصين محصورًا في إدانة الطرفين، والدعوة المتكررة لدعم حل الدولتين، والتركيز على الجانب الإنساني، والتصويت لصالح قرارات وقف إطلاق النار، والهدنة في الأمم المتّحدة، ومجلس الأمن كما حدث يوم الأربعاء 25/10/2023، حين استخدمت الصين حقّ النقض/ الفيتو في مجلس الأمن الدولي، ضدّ مشروع قرار صاغته الولايات المتّحدة بشأن الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، وعلق سفير الصين لدى الأمم المتّحدة تشانغ جون على القرار، أمام المجلس قائلاً "مشروع القرار لا يعكس أقوى الدعوات في العالم لوقف إطلاق النار، وإنهاء القتال، ولا يساعد في حلّ القضية. في هذه اللحظة، وقف إطلاق النار ليس مجرد مصطلحٍ دبلوماسيٍ، إنّه يعني حياة وموت العديد من المدنيين". أما بالنسبة للأسباب الخمسة، فهي:

أوّلًا، الصين ليست الغرب. بمعنى أنّ الصين لا تفهم لغة التحالفات الدولية، ولا تعترف بها، بل وترفضها، وتؤكّد على ذلك دائمًا في كلّ خطاباتها الرسمية. وتنتقد الصين التحالفات الغربية خاصّةً، وترى أنّها السبب في عدم استقرار النظام الدولي. لذا؛ لن تقوم الصين بأيّ تحالفٍ مضادّ لدعم الموقف الفلسطيني على الأرض، كما فعلت أميركا وحلفاؤها مع إسرائيل. ونضيف على ذلك؛ لم تنتقد الصين ولم تشير لغاية الآن إلى التحالف الغربي لدعم إسرائيل في إبادة قطاع غزّة. وحتّى لو أن الصين تمارس سياسة الاصطفاف الدولي، فقد اندلعت الحرب في فترةٍ تميزت "بنعومة" الخطاب بين الصين والغرب، وخاصّةً تجاه الولايات المتّحدة.

ثانيًا، فلسطين ليست روسيا. ما يجعلني أضع روسيا هنا هو خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي قال فيه "يمثل إرهاب وطغيان حماس وبوتين تهديدين مختلفين، ولكن كلًّا منهما يريد تمامًا القضاء على الديمقراطية المجاورة." وأضيف على ذلك، أنّ الحربين في أوكرانيا وفلسطين عززتا التحالفات الدولية الغربية من جهةٍ، ووضعتا دور الصين كدولةٍ تتطلع للجم الهيمنة الغربية -حسب ادعائها- أمام اختبارٍ حقيقيٍ من جهةٍ أخرى.

تبنّت الصين الموقف الروسي كاملًا في الأزمة الأوكرانية، وهاجمت واشنطن علنًا بأنّها من تقف خلف زعزعة استقرار المنطقة. واتهمت واشنطن بأنّها لا تزال عالقةً في عقلية الحرب الباردة، بسبب توسع الناتو، وقيادة تحالفٍ غربيٍ لضرب الاقتصاد الروسي، وحتّى أنّها؛ في بعض تصريحاتها، قالت بأنّ واشنطن "تصب الزيت على النار" عبر دعمها العسكري لأوكرانيا. وعلى الرغم من أنّ التحالف الدولي الحالي هو ذاته الذي نشأ ضدّ روسيا، إلّا أنّ الصين لغاية الآن لم تخرج بأيّ تصريحٍ مشابهٍ، فهل تختلف عقلية الحرب الباردة التي مورست مع روسيا عن العقلية التي نراها اليوم ضدّ فلسطين؟ مع التحفّظ التام على مقاربة الحقّ الفلسطيني في الدفاع عن نفسه ضدّ الاحتلال، ومواجهته بكافّة الطرق والأشكال، مع الحرب الروسية على أوكرانيا.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

ثالثًا، لا تمارس الصين سياسةً أحادية الجانب، أو تضع على عاتقها مسؤولية حلّ أيّ نزاعٍ دوليٍ. فجميع تصريحاتها كانت في سياق دعم الجهود الدولية، أو دعوة المجتمع الدولي للقيام بدورٍ أكثر فعاليةٍ. نشر موقع وزارة خارجيتها التصريح التالي "يتعين على المجتمع الدولي أن يتحرك بسرعةٍ أكبر، وأن يزيد من إسهاماته في القضية الفلسطينية... وستواصل الصين العمل بلا هوادةٍ مع المجتمع الدولي لتحقيق هذه الغاية"، وفي تصريحٍ آخر، ورد فيه "لقد أحطنا علمًا بالاجتماع الطارئ لوزراء خارجية جامعة الدول العربية وقراره. إننا ندعم قيام الجامعة العربية بدورٍ مهمّ في القضية الفلسطينية... ويؤمن كلانا بأنّ المجتمع الدولي بحاجةٍ إلى الاضطلاع بدورٍ فعالٍ"، وفي بيانٍ آخر قالت إنّ "على الأمم المتّحدة مسؤوليةٌ والتزامٌ للقيام بدورها الواجب بشأن القضية الفلسطينية. وتؤيد الصين عقد مجلس الأمن اجتماعًا طارئًا بشأن الصراع... وتشكيل إجماعٍ دوليٍ ملزم". إذًا، وعلى نقيض ما ذكرته سابقًا، تشير هذه التصريحات إلى أنّ الصين لن تلجأ إلى استخدم أدوات الضغط التي تمتلكها، كي تمارس دورًا أحاديًا من أجل الضغط على إسرائيل لوقف العدوان، ولا تريد استخدامها، وليست مطروحةً أصلاً.

رابعًا، دعم الديكتاتوريات العربية. خطابيًا؛ كما أشرت سابقًا، فإنّ الصين تعي أهمّية القضية الفلسطينية على صعيد الشعوب العربية، ولكنها عمليًا، تدعم الديكتاتوريات العربية دون استثناءٍ. لقد اتهمت الصين الثورات الشعبية العربية؛ التي اندلعت ضدّ الدكتاتوريات، بأنّها نظمت من قبل واشنطن Orchestrated by The US. عدا عن ذلك، فإنّ الصين داعمةٌ للتطبيع العربي مع إسرائيل، وبالتالي فإنّ الدعم الخطابي ليس له أهمّيةٌ مقارنةً بالعلاقات الثنائية بين الصين والأنظمة الديكتاتورية العربية، التي تقيم علاقاتٍ قويّةً مع إسرائيل. وللأسف، الموقف الصيني من الحرب مشابهٌ تمامًا لمواقف الدول العربية المطبّعة، أو التي تقف على طابور التطبيع: إدانة العنف، التصويت في الأمم المتّحدة، وتكرار دعمها لحلّ الدولتين، الذي يتناقض قطعًا مع واقع استثمارها في المستوطنات.

خامسًا، الإدانة. دعت الصين في كلّ تصريحاتها، لغاية الآن، الجانبين إلى "ضرورة وقف الأعمال العدائية، والعنف لحماية المدنيين"، انتقدت واشنطن الصين لعدم إدانتها حماس خصوصًا، ويرى بعضهم أنّ هذه نقطةٌ إيجابيةٌ لصالح الموقف الفلسطيني. الانتقاد الأميركي والاعتقاد الفلسطيني غير دقيقين، ففي الخطابات الصينية جميعها، أدانت الصين الجانبيين، دون ذكر إسرائيل أو حماس، وحتّى في تصريحها حول قصف مستشفى المعمداني، لم تذكر الصين إسرائيل، ولم توجّه لها أيّ انتقادٍ أو اتهامٍ مباشرٍ، إذ قالت "تشعر الصين بالصدمة، وتدين بشدةٍ الهجوم على المستشفى في غزّة، والذي أدّى إلى سقوط عددٍ كبيرٍ من الضحايا"، وفي بيان صادر لوزارة الخارجية الصينية عن الوزير وانغ يي قال فيه لنظيره الإسرائيلي إيلي كوهين إن "كل الدول لديها الحق في الدفاع عن النفس"، مشددًا على أنّه في الوقت نفسه يتعين على هذه الدول "الالتزام بالقانون الإنساني الدولي وحماية سلامة المدنيين".

تعي الصين جيدًا أنّ القضية الفلسطينية، على المستوى الشعبي العربي على الأقلّ، ما زالت أهمّ القضايا

فلسطينيًا، يضعف هذا الخطاب الموقف الفلسطيني، ولا يدعمه، فهو يحمل في طياته مساواةً بين الجرائم الإسرائيلية، وردود أفعال المقاومة الفلسطينية، وينزع عن الفلسطيني حقّه الشرعي في الكفاح المسلّح. أما وبخصوص إدانة حماس، فقد صوتت الصين في 18/10/2023 لصالح مشروع قرار "هدنةٍ" يتضمّن إدانة حماس مباشرةً.

منذ سبعينيات القرن الماضي؛ تحوّل الموقف الصيني تدريجيًا تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، من الدعم الراديكالي لإزالة إسرائيل، إلى دعم يهودية الدولة الإسرائيلية. وعلى الرغم من قناعة الكاتبة بأنّ الصين تمتلك القدرة للضغط على إسرائيل، إلّا أنّ الواقع يخبرنا بأنّها لا تريد ذلك، فلن تحيي الصين ماو تسي تونغ لمواجهة أرواح أيزنهاور وفورد، التي رست في الشرق الأوسط.