خدعة الجنسية الروسية للسوريين… حيلة جديدة لتجنيد مرتزقة

خدعة الجنسية الروسية للسوريين… حيلة جديدة لتجنيد مرتزقة

12 فبراير 2024
مواطن سوري يراقب آلية روسية في الحسكة، أكتوبر 2019 (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -

فرض التدخّل العسكري الروسي في سورية، بالتوازي مع التدخّل التركي في الشمال، معطيات جديدة على أرض الميدان لجهة السيطرة والنفوذ على أغلب الجغرافيا السورية، فهيمنت روسيا على مليشيات تدعم نظام بشار الأسد، فيما فرضت تركيا سطوتها على جزء كبير من فصائل المعارضة في الشمال الغربي. لكن الطرفين حوّلا الكثير من شبّان تلك المليشيات والفصائل وغيرهم إلى مرتزقة، ليعملوا لصالح مشاريعهما العسكرية خارج الحدود السورية، وآخر فصولها خدعة الجنسية الروسية للسوريين.

في آخر عمليات تجنيد الشبان السوريين وجعلهم مرتزقة، اطلعت "العربي الجديد" على معطيات وحقائق تفيد بقيام روسيا، عبر وكلاء، بترغيب شبان سوريين بمنحهم الجنسية في إحدى جمهورياتها، بذريعة العمل هناك وسد فراغ النقص البشري والأيدي العاملة، لكن الكثير من الشبان الذين جُنّدوا وجدوا أنفسهم مقاتلين كمرتزقة في الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا.

خدعة الجنسية الروسية للسوريين... تفاصيل الحيلة

وفي عمل لحلقات متشابكة، من بينها السفارة الروسية في دمشق، ومندوبون ووكلاء، بالإضافة إلى شركة غامضة استُدرج شبان سوريون إليها، معظمهم من محافظة السويداء جنوبي البلاد، بحجة العمل في حماية مناجم الألماس في جمهورية ياقوتيا الروسية (ساخا)، مع الترغيب براتب عال ومنح جنسية تلك الجمهورية، وبالتالي الجنسية الروسية بطبيعة الحال.

وتقوم شركة (لا يُذكَر اسمها ووكلاؤها) باستقطاب الشبان بالتعاون مع أشخاص داخل السفارة الروسية في دمشق، وتجنيد عدد كبير من السوريين، وزجهم لاحقاً في الحرب الأوكرانية بعد منحهم الجنسية.

استدراج شبان سوريين بحجة العمل في حماية مناجم الألماس في ياقوتيا الروسية، مع الترغيب براتب عال ومنح جنسية تلك الجمهورية

"العربي الجديد" رصدت مقطعاً مصوراً على صفحة المدعو أكرم طراف، وهو الشخصية الرئيسية التي تسهّل العمل داخل سورية، باعتباره ممثل الشركة المستقطبة، حيث يعرض فيه شبان من محافظة السويداء وهم يستلمون جواز السفر الروسي، محاولاً بذلك نقض الأخبار التي تداولتها مصادر إعلام محلية في السويداء عن وقوع هؤلاء الشبان في فخ محكم نُصب لهم لتجنيدهم مرتزقةً في الحرب على أوكرانيا.

وبالفعل، كان قد غادر البلاد إلى ياقوتيا 45 شاباً من بينهم 35 من محافظة السويداء وحدها، وتسلموا هناك جوازات سفر روسية، لكن أحدهم كشف، عبر مقطع صوتي أرسله إلى ذويه، أنهم فوجئوا بأنهم باتوا مرتزقة يقاتلون مع الجيش الروسي في أوكرانيا.

وحصلت "العربي الجديد" على صور لبعض جوازات السفر الروسية التي حصل عليها الشبان، وتبيّن أنها جوازات داخلية تُعتبر بمثابة البطاقة الشخصية أو الهوية، لكنها تشير إلى أن من يحملها بات مواطناً روسياً كامل الحقوق، وبإمكانه استصدار جواز سفر خارجي متى شاء.

جواز سفر روسي داخلي حصل عليه أحد الشبان
جواز سفر روسي داخلي حصل عليه أحد الشبان السوريين (العربي الجديد)

وعلمت "العربي الجديد"، عبر مصادر في محافظة السويداء، أن طائرة جديدة تحمل شباناً سوريين، بينهم عدد من شبان السويداء، سُيّرت منذ نحو أسبوعين إلى الوجهة نفسها، وعلى متنها حوالي 35 شاباً.

ووفقاً لـ"شبكة الراصد" المحلية في السويداء، فإن سمساراً يدعى وسيم الدمشقي يقوم باستقطاب شبان من المحافظة، ضاقت بهم سبل الحياة في سورية، على أساس العمل متعاقدين مدنيين لحراسة مناجم ذهب وألماس في جمهورية ياقوتيا الروسية (ساخا)، وإغرائهم بامتيازات كثيرة، منها الجنسية الروسية وما يترتب عنها من حقوق، إضافة إلى راتب شهري مقطوع يعادل 2000 دولار أميركي.

كيف يُستدرج الشباب السوريون؟

ومن خلال تواصل "العربي الجديد" مع العديد من الأشخاص الذين فضّلوا جميعاً عدم ذكر أسمائهم لأسباب أمنية، تبيّن أن الشبكة التي تستدرج الشبان تضم شخصاً يدعى الدكتور ماهر، وآخر يدعى الدكتور أكرم طراف، وكلاهما مقربان من السفارة الروسية في دمشق، بالإضافة إلى وسيم الدمشقي وهو سمسار لهذين الشخصين.

وحصلت "العربي الجديد" على صور لجوازات سفر سورية لشبان سافروا في الدفعة الثانية إلى روسيا، وتلك الجوازات موضوعة عليها فيزا عمل روسية لمرة واحدة، لكن هؤلاء الشبان حصلوا على وعود بأن تُمنح لهم الجنسية فور وصولهم.

فيزا روسية على جواز سفر سوري
فيزا روسية على جواز سفر سوري (العربي الجديد)

وبحسب مقطع صوتي مسرب عن أحد المندوبين للشركة، فإن جمهورية ياقوتيا بحاجة إلى زيادة عدد سكانها، القليل جداً بالنسبة لمساحتها الكبيرة بين جمهوريات روسيا الاتحادية، لحماية ثرواتها. لكن وراء تلك الدعاية تتخفى خديعة اكتشفها من وصلوا قبل أسابيع، إذ نُقلوا بعد 15 يوماً من وصولهم إلى فوج دبابات روسي في مدينة أولان أودي، جنوبي روسيا، ثم إلى يالطا في شبه جزيرة القرم التي احتلتها روسيا، بعد تسليمهم دفتر خدمة عسكرية روسي، على اعتبار أنهم أصبحوا مواطنين روس.

نقل من وصلوا إلى ياقوتيا بعد 15 يوماً من وصولهم إلى يالطا في شبه جزيرة القرم، بعد تسليمهم دفتر خدمة عسكرية روسي

وبحسب عدد من الشبان الذين زاروا الدمشقي في منزله للاستفسار عن العمل والسفر، فقد أكد هؤلاء لـ"العربي الجديد" أن هذا السمسار، الذي يقوم بمهمة استقطاب الشباب لصالح روسيا في السويداء، كان يتقاضى بداية الأمر مليوناً ونصف مليون ليرة سورية (الدولار يساوي 14500 ليرة سورية) عمولةً عن كل شاب يرغب السفر إلى روسيا، ثم رفعها إلى ثلاثة ملايين ليرة، وأخيراً إلى خمسة ملايين، فيما يتقاضى أكرم الطراف 3500 دولار من كل شاب من الشبان الذين وصلوا إلى هناك، تُقتطع من رواتبهم الشهرية.

يؤكد أحد الشبان الموجودين حالياً في أراضٍ ضمتها روسيا بعد الحرب من أوكرانيا، في اتصال مع "العربي الجديد"، أنه لم يتوجه للقتال أبداً، وهذا الحديث المتداول في الإعلام لا علم لهم به إلا أخيراً، فهم حصلوا على الجنسية الروسية من أجل العمل في مناجم ألماس بجمهورية ياقوتيا، لكن الخدعة اتضحت حين قام الروس بنقلهم إلى مكان آخر بعيد عن الجمهورية المذكورة، ووضعهم في مدينة تدعى يالطا، حيث بدأوا يتدربون على السلاح. وأشار إلى اعتراضهم على ذلك، وطلبهم حضور ضابط من التوجيه السياسي للاعتراض على الأمر.

الشاب الذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية قال، لـ"العربي الجديد"، إنهم يجهلون اللغة وما يتضمنه جواز السفر، ولكن بحسب المترجمين هناك، فإنه مخصص فقط للتجوال داخل روسيا، حيث تيقنوا أنهم لم يحصلوا على الجنسية الروسية الكاملة، مع وعود بإعطائهم الجواز الكامل عند الإجازة الخارجية. وختم بأن وضعهم في سورية كان كارثياً، وجاؤوا من أجل الحصول على المال وتأمين حياتهم، وليس الانتقال من موت إلى موت.

من جهته، قال الشاب ر. أبو حسون، المنحدر من بلدة شقا في الريف الشرقي لمحافظة السويداء، لـ"العربي الجديد"، إنه ينتظر اكتمال أوراقه لكي يسافر إلى روسيا أو أوكرانيا، ولا تهمه الوجهة مهما كانت، مبرراً ذلك بأن الحياة في سورية لم تعد تطاق، ويطمح للانتهاء من فكرة الجوع والعطش والفوضى من حياته وحياة أسرته حتى لو كان الثمن باهظاً. واستشهد الشاب بما حصل مع سوريين جُنّدوا إلى ليبيا، وعادوا بمبالغ "محترمة أسست لهم حياة جديدة".

وعن كيفية الحصول على جواز السفر، أوضح أبو حسون أن الدفعة الأولى استلمت الجوازات في روسيا عقب وصولهم فوراً، وهناك من استلمها في دمشق عبر الوسطاء ولم يسافروا على الرغم من دفعهم الأموال عمولةً للوسطاء، مؤكداً أن الذين سافروا حديثاً استلموا الجواز الروسي في دمشق، وسافروا به.

كما قال قريب أحد الشبان الذين وصلوا إلى هناك، لـ"العربي الجديد"، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، إنه وقريبه ذهبا إلى قرية البثينة في الريف الشمالي الشرقي لمقابلة السمسار وسيم الدمشقي، الذي أكد لهم أن المهمة حراسة مناجم ألماس فقط براتب شهري كبير ومميزات طبية طوال العقد، مضافةً إليها الجنسية الروسية وجواز سفر كامل الصلاحية. وأضاف: "بعد الاتفاق على التفاصيل، دُفع مبلغ مليون ونصف مليون ليرة عمولةً"، وأشار لهما بأن هناك دفعة جاهزة للسفر إلى ياقوتيا، لكن هذا الشخص لم يسافر ولم يلتحق بالدفعة، لكن قريبه الذي سافر أخبره بأن "كل الوعود كانت كاذبة عدا الحصول على الجنسية وجواز السفر الذي تبيّن أنه داخلي".

وأشار المصدر إلى أنه حتى بعد أن انكشف الأمر والخدعة، فإن الأعداد تتزايد لطلب التجنيس والسفر لدى الدمشقي، وليس العكس، نظراً للظروف الاقتصادية المتدهورة بشكل يومي، مضيفاً: "لا خيارات أمام الناس، ذهبت مرتين إلى منزله، وفي كل مرة أجد بيت الدمشقي ممتلئاً، علماً إن الجميع يعلم الخدعة تماماً".

طه عبد الواحد: قدّمت السلطات الروسية خلال السنوات الأخيرة تسهيلات غير مسبوقة لمنح الجنسية

كما حصلت "العربي الجديد" على تسجيلات صوتية لشخص يدعى عماد كوكاش، وهو مدرس من محافظة السويداء، تبين أنه رُفض للسفر بسبب سنه، لكن جرى استغلاله ليكون مندوباً لاستقطاب الشبان من دون أجر، على أن يكون ابنه من بين الشبان المسافرين إلى روسيا من دون عمولة.

وأقر كوكاش في التسجيلات أنه تعرض لخدعة، متعهداً بأن يراجع السفارة الروسية، وتحديدا الشخص المدعو الدكتور ماهر، لإعادة الشبان الـ45، أو إعادة حقوقهم وإبعادهم عن خطوط القتال.

تجنيد عبر استغلال الأوضاع المعيشية

وعلى مجموعة في "واتس آب"، طالب بعض الشباب، الذين سجلوا أسماءهم للسفر والحصول على الجنسية الروسية لدى وسيم الدمشقي، بأن يبيّن لهم حقيقة الأخبار المتداولة عن تجنيدهم ودفعهم إلى خطوط القتال في أوكرانيا في حال الذهاب إلى روسيا، فطلب منهم الدمشقي الحضور إلى حي جرمانا في العاصمة السورية دمشق، لمقابلة الدكتور ماهر وتصوير فيديو معه ليشرح لهم طبيعة عملهم ومهامهم. واعترف الدمشقي، خلال التسجيلات التي حصلت عليها "العربي الجديد"، بأن هناك شباناً من حلب وحمص مسجلون لديه.

ورأت الناشطة الحقوقية سلام عباس، وهي من محافظة السويداء، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الفقر والعوز يدفعان الكثير من الشبان إلى البحث عن الخلاص بالهجرة، ليقعوا غالباً ضحايا لعمليات نصب أو تجنيد كمرتزقة، تقودها شبكات منظمة، هدفها تفريغ البلاد من الشباب الذين يعتبرون عماد أي تغيير، وفي الوقت ذاته المتاجرة بالدم السوري الذي استرخصته حكومته، فاسترخصته كل دول العالم.

وسألت "العربي الجديد" الباحث والمحلل السياسي طه عبد الواحد، المقيم في روسيا، عن آلية التجنيس في الجمهوريات الروسية، وأشار إلى أنه "بشكل عام قدّمت السلطات الروسية خلال السنوات الأخيرة تسهيلات غير مسبوقة لمنح الجنسية، منها مثلاً، معرفة اللغة الروسية بشكل جيد، ويمكن القول إن كثيرين من أبناء جمهوريات آسيا الوسطى، الذين يعملون في روسيا، والذين لا يمكن القول عن بعضهم إنهم يعرفون اللغة الروسية بشكل جيد، استفادوا من هذه التسهيلات، كما استفاد منها مواطنون من دول أخرى بينها دول عربية".

وأضاف عبد الواحد: "بالنسبة لمنح الجنسية من جمهورية ياقوتيا الواقعة أقصى شرق روسيا الاتحادية، فهذه مسالة ليست ذات أهمية، لأنه لا يهم أين تحصل على الجنسية الروسية ضمن الأراضي الروسية، فهي، أي الجنسية، تمنحك كافة حقوق المواطن الروسي، بما في ذلك التنقل بحرية والعيش أينما شئت في البلاد". وأضاف: "قد يكون هناك بعض التسهيلات الإدارية، أي في المعاملات ومدة النظر في الطلبات للحصول على الجنسية في ياقوتيا ومناطق أخرى نائية من روسيا، وذلك نظراً لحاجة تلك المناطق إلى قوة بشرية وأيدٍ عاملة وخبرات لتحريك الاقتصاد هناك، لا سيما أنها مناطق غنية بثروات طبيعية".

أما حول حصول سوريين على جنسية روسية مقابل مشاركتهم في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فأشار عبد الواحد إلى أن "هذا الأمر محتمل جداً، لا سيما بعد أن أصدر الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) مرسوماً ينص على منح الجنسية لكل أجنبي شارك في العملية في أوكرانيا مدة عام، على أن يقدّم الوثائق التي تثبت ذلك، حتى إنه يملك الحق بالحصول على جنسية لأفراد أسرته".

وسابقاً، جندت روسيا سوريين للقتال إلى جانب قواتها في كل من ليبيا وأرمينيا، كما عمدت تركيا كذلك إلى تجنيد سوريين للقتال في كل من إقليم ناغورنو كاراباخ وليبيا أيضاً، وكان معظم هؤلاء الشبان من مليشيات تهيمن روسيا على قرارها في البلاد، أو من فصائل "الجيش الوطني" المعارض الحليف لتركيا، فيما فقد العديد من الشبان الذين جُنّدوا حياتهم على تلك الجبهات، خارج حدود بلادهم.