حكومة نتنياهو الجديدة تُسيِّس الجيش

حكومة نتنياهو الجديدة تُسيِّس الجيش

25 ديسمبر 2022
فلسطينيون يتصدون لمظاهرة المستوطنين بقيادة بن غفير (مصطفى الخروف/الأناضول)
+ الخط -

لعب الجيش الإسرائيلي، والمؤسسات الأمنية المرتبطة به، دوراً مركزياً في حياة "إسرائيل" منذ إنشائها في عام 1948، بحكم حجم الجيش ومكانته ودوره الموضوعي والميزانيات التي يحظى بها. لذا، أسهم بمجموعة من الأدوار المتداخلة السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية.

كل ذلك بات عرضة لتأثيرات تهدد قدرات الجيش وطابعه المهني المتخصص واستقلاليته النسبية عن السياسة والأهواء الحزبية، في ضوء صعود قوى اليمين المتطرف في إسرائيل وانتقالها من هامش الخريطة السياسية إلى مركزها المؤثر.

كما تجلى في الاتفاقات الائتلافية التي أبرمها رئيس الحكومة المرتقبة بنيامين نتنياهو مع قادة اليمين الفاشي، بموجبها سيتسلم ممثلو القوى الأكثر تطرفاً مسؤولية بعض المواقع الأمنية الحساسة، بما فيها وزارة الأمن القومي، التي تشرف على جهاز الشرطة، وصلاحيات الإشراف على الاستيطان والعلاقة مع الفلسطينيين، كذلك إن القوى الدينية المتزمتة، مثل حزبي "شاس" و"يهدوت هتوراة" التي يتهرب منتسبوها من التجنيد، ستكون في الموقع الذي يقرر مصير الجيش وأحواله، في حين هي أبعد ما تكون عن تفهم احتياجاته.

الاتفاقيات الثنائية التي أبرمها نتنياهو مع شركائه في الائتلاف اليميني، التي أثارت حفيظة مروحة واسعة من القوى والتيارات السياسية في إسرائيل

على امتداد تاريخه، كان الجيش بمثابة المعهد الأبرز إسرائيلياً، الذي يخرّج قادة المجتمع الإسرائيلي في شتى الحقول والميادين، متفوقاً على قطاع الأعمال والهيئات الأكاديمية (مع أن الجامعات الإسرائيلية تحظى بمراتب مرموقة عالمياً). من الأقوال التي تتردد عن مكانة هذا الجيش عبارة "لكل دولة جيش، في حين أنّ للجيش الإسرائيلي دولة".

من صفوف الجيش العليا يأتي السياسيون، وزراء ونواب وسفراء وقادة أحزاب، ومديرو شركات ورؤساء بلديات، حتى الإعلاميون والمحللون السياسيون الذين يطلّون على ملايين الإسرائيليين كل ليلة يأتي معظمهم من دوائر الأمن والاستخبارات.

يبدو الجيش الإسرائيلي مثل قاطرة تقود المجتمع بأسره، يلعب دوراً داخلياً ودولياً مشتقاً من دور دولة إسرائيل الوظيفي، بالتالي فإن دوره لا يتعارض مع مصالح باقي قطاعات المجتمع الصهيوني؛ كما هي حالة الطغم العسكرية الحاكمة، بل يتكامل معها.

لا يقتصر دور الجيش على حماية هذا المجتمع، الغريب عن بيئته ومحيطه، من التهديدات والأخطار الوجودية المحدقة، بل يكتسب أهميته الأساسية من طبيعة دولة إسرائيل العدوانية والتوسعية، دورها في حماية مصالح الغرب الاستراتيجية في المنطقة، فالجيش الإسرائيلي هو اليد العليا التي يمكنها أن تضرب أي هدف معادٍ، سواء في فلسطين وسورية ولبنان والأردن، أو، كما حدث فعلياً، في تونس والعراق وأوغندا والسودان، كذلك ضربت أذرعها الأمنية في باريس وروما وأثينا وبروكسل ودبي وماليزيا وغيرها.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

لا يتورع جيش إسرائيل عن الجمع بين كل طرق القتل والأسلحة الأكثر فتكاً وتطوراً في المنطقة، تشمل قدرات الردع الناشئة نحو مئة رأس نووي، سلاح الجوٍّ هو الأقوى خارج الدول العظمى، وغواصات نووية، إلى أدوات القتل البدائية كالأسلحة البيضاء والتسميم وإحراق الأسرى، وصولاً إلى المجازر التي كانت وما زالت من أبرز أدوات السياسة الإسرائيلية.

إذا كانت الحروب قدراً لا بد منه من أجل الدفاع عن الذات والوجود، فقد باتت قدرات الجيوش المقرونة بالصناعات العسكرية المتقدمة، من أدوات الهيمنة السياسية وتوسيع النفوذ الخارجي، عبر تقديم عروض الحماية والاتفاقيات الأمنية التي توفرها إسرائيل لدول وأنظمة عديدة في شتى أرجاء المعمورة.

الأدوار المركزية التي يقوم بها الجيش أهّلته لتولي المسؤولية عن قطاعات لا علاقة لها بالشأن العسكري، إذ ورد في تقرير مراقب الدولة، أن نحو 80% من أراضي الدولة تخضع لإشراف الجيش الإسرائيلي، الذي بدوره يخصص نحو نصف هذه المساحة لأغراضه العملياتية، من معسكرات وميادين تدريب ومخازن ومنشآت سرية وما شابه ذلك، يخضع استخدام المساحات الباقية من قبل القطاعات الأخرى لقيود مشددة يفرضها الجيش، في ظل شحّ الأراضي المخصصة للصناعة والزراعة والعمران، وصغر مساحة فلسطين التاريخية، التي يقلّ الجزء المحتل منها عام 1948 عن 21 ألف كيلومترٍ مربعٍ.

يُنظر إلى الجيش عادة بوصفه الأداة القومية الكبرى، التي تساهم في خلق الإنسان الإسرائيلي الجديد، أي الصهيوني الوطني، الذي يقضي أجمل أيام حياته وشبابه في الجيش. في ضوء فشل نظرية "بوتقة الصهر"، التي راهن عليها ديفيد بن غوريون، ومفادها أن أجهزة الدولة ومؤسساتها ستخلق الإسرائيلي الصهيوني بديلاً من الهويات المتنافرة، التي ينحدر منها المهاجرون، بات ينظر إلى الجيش بوصفه العنوان الجامع، ومحل الثقة الذي يبني شخصية الإسرائيلي الجديد طوعياً، دون وسائل إكراه قسرية وعنصرية، مثل تلك التي حاول بن غوريون وأجهزته استخدامها في الخمسينيات، فانفجرت نتائجها في وجوههم في الستينيات عبر احتجاجات اليهود الشرقيين.

يبدو نتنياهو مدركاً تماماً لكل هذه المخاطر والتحديات، لكنه ماضٍ في تأليف حكومته، واضعاً في المقدمة مصلحته الشخصية

من اللافت تبوّؤ الجيش الإسرائيلي مكانة ريادية متميزة في الاقتصاد الإسرائيلي وطفرات الانتعاش، التي شهدها في السنوات الأخيرة، نتيجة نموّ القطاعين المتداخلين والأكثر ارتباطاً بالجيش، التقنية العالية (الهاي تك) والصناعات العسكرية، هما قطاعان حاضران بقوة كمُكّون رئيسي في كل من صادرات السلع والخدمات.

جدير بالذكر أن إسرائيل التي عملت على خصخصة جميع مرافق القطاع العام، بما فيها المواصلات والاتصالات والموانئ وخدمات المياه والكهرباء حتى شركات الأمن والحراسة، ما زالت تتمسك بملكية الدولة وإشرافها على أهم شركات ومراكز الصناعات العسكرية، بما فيها الصناعات الجوية والخدمات الأمنية، حيث يلعب الجيش دوراً مركزياً في إدارة الاقتصاد، سواء من خلال خبرائه وإداراته العليا ومراكز البحث والتطوير التي يديرها، أو عبر ضباطه المتقاعدين الذين ينهون خدمتهم في سنّ مبكرة (الأربعينيات)، ثم تجذبهم الصناعات العسكرية برواتبها المغرية، يأتون بخبراتهم الغنية وتجاربهم "الميدانية"، التي اكتسبوها من خدمتهم العسكرية.
 
يُخَصّص لوزارة الدفاع نصيبُ الأسد من موازنة إسرائيل لعام 2022، مبلغ يزيد على 21 مليار دولار (73.3 مليار شيكل)، متقدمة على وزارة التربية (69.7 مليار شيكل) والصحة (44.8 مليار)، فيما حصلت باقي الوزارات الخدمية على مخصصات أقل من ذلك بكثير.

يتمتع الجيش كذلك بمكانة مرموقة لدى الجمهور، في استطلاعات دورية يجريها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، تبين الانخفاض المطرد في ثقة الجمهور بمؤسساته العامة، جميع المؤسسات تقل ثقة الجمهور بها عن 50%، ما عدا الجيش الذي يحظى بنسبة ثقة 78%، فيما لا تزيد ثقة الجمهور بالحكومة على 27% والشرطة على 33.5%، والمحكمة العليا على 48% والأحزاب على 10%. مع ذلك، مثلت نتائج الاستطلاع انخفاضاً ملموساً في ثقة الجمهور بالجيش، عن استطلاعات سابقة كانت تعطيه أكثر من 90%، ما يمكن استنتاجه من ذلك أن الجيش بات يدفع فاتورة الخلافات السياسية، وهو أمر مرشح للاتساع مع تنصيب حكومة نتنياهو – بن غفير – سموتريتش.

حافظ الجيش الإسرائيلي تاريخياً على قدرٍ عالٍ من المهنية (بالمنظور الصهيوني وليس المطلق)، واستقلالية نسبية عن المنازعات الحزبية، رغم الميول السياسية والحزبية في تعيينات المناصب العليا في الجيش والأجهزة الأمنية، لكنها ظلت محدودة في تأثيرها بمهنية الجيش واستقلاليته، إلا في السنوات الأخيرة، وخصوصاً في فترة ولاية نتنياهو الخامسة (2019-2021)، حين اصطدم الأخير مع الشرطة، بغرض التأثير بتعيين كبار المحققين، كي يتملص من المحاكمة، كذلك اصطدم مع رئاسة أركان الجيش، التي كبحت اندفاعه نحو شنّ حرب على غزة لأهداف ومآرب شخصية، تتصل بشعبيته في الانتخابات.

كل التقديرات تشير إلى أن حكومة نتنياهو الجديدة، تحالفه مع قوى اليمين المتطرف، ستعمل على تسييس الجيش والشرطة، من أجل إخضاعهما لحسابات ومصالح أطراف الائتلاف الحكومي الحزبية، ما سيقود إلى تحطيم القواعد التي بني عليها الجيش منذ 75 عاماً، وإلى إضعاف الجيش والأجهزة الأمنية والدولة.

بحسب بني غانتس، وزير الأمن في الحكومة المنتهية ولايتها، نتنياهو سيبني جيشاً خاصاً لإيتمار بن غفير، يقصد بذلك، إضفاء الشرعية والصفة الرسمية على مليشيات أشبه بالعصابات، يقودها أنصار بن غفير وسط المستوطنين، سيعاد تنظيمها وتسميتها "الحرس الوطني".

عموماً، قبل نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، كشفت تطورات الصراع مع الفلسطينيين والعرب عن المزيد من العيوب والثغرات في تركيبة الجيش الإسرائيلي وبنيته القادرة على إلحاق الهزيمة بجيوش نظامية ودول، لكنها ظلت عاجزة عن توفير الأمن الشخصي للإسرائيلي، علاوةً عن فرض الاستسلام على الفلسطينيين.

الأدوار المركزية التي يقوم بها الجيش أهّلته لتولي المسؤولية عن قطاعات لا علاقة لها بالشأن العسكري

كذلك، تمثل أنماط التهديدات الجديدة، مثل الحروب السيبرانية والتكنولوجيا المستخدمة في الطائرات المُسيّرة والصواريخ الدقيقة، تحديات يصعب حسمها بسهولة، بل إن جيشاً بهذه القدرات الفتاكة يجد نفسه غارقاً في مهام يومية من اختصاص قوات الدرك، مثل مطاردة الفتية والشبان في أزقة المدن والقرى الفلسطينية.

ما يزيد الوضع تعقيداً، الاتفاقيات الثنائية التي أبرمها نتنياهو مع شركائه في الائتلاف اليميني، التي أثارت حفيظة مروحة واسعة من القوى والتيارات السياسية في إسرائيل. ينصبّ احتجاج المعارضين على برنامج الحكومة، الاتفاقات الثنائية مع الشركاء، شخصية الوزراء الذين سيتولون مناصب عسكرية (سموتريتش وبن غفير)، كلاهما ذو سوابق جنائية معروفة في التطرف والاصطدام مع الجيش والشرطة، إلى جانب الرضوخ لمطالب شخصية وابتزازية للشركاء، التي شملت سن تشريعات مُفصّلة على مقاس بعض الأفراد، مثل قانون درعي، واستحداث مناصب، ونقل الصلاحيات بين الوزارات، وإلحاق ملفات حساسة مثل التعامل مع الفلسطينيين والاستيطان لوزراء عرفوا بتهوّرهم، قد يورط إسرائيل في مواجهات زائدة، من بينها ما يخطط له بن غفير في المسجد الأقصى، ومساعيه لانتزاع أراضي البدو الفلسطينيين في النقب، وغير ذلك من صواعق قد تفجّر منجزات الحكومات السابقة، وتعيد تأليب العالم على إسرائيل وتهدد أمنها.

يرتبط الجيش الإسرائيلي بمعاهدات واتفاقيات دولية مع دول وجيوش عالمية عديدة، لذا من الصعب تصوّر أن هذه المقدرات سيُسهم في إدارتها والإشراف عليها وزراء لم يخدموا يوماً واحداً في الجيش، ولا يتمتعون بأية خبرة أو ثقافة عسكرية، ولا يقيمون أي وزن للقانون الدولي والرأي العام.

من الاتفاقيات كذلك، جملة من التفاهمات ومشاريع القوانين التي تمسّ صلاحيات المحكمة العليا، ما أثار احتجاجات واسعة لدى قطاع الأعمال والأوساط الحقوقية. يبدو نتنياهو مدركاً تماماً لكل هذه المخاطر والتحديات، لكنه ماضٍ في تأليف حكومته، واضعاً في المقدمة مصلحته الشخصية، العودة إلى الحكم وسنّ تشريع يحميه من السجن والمحاكمة، ثم الرهان على قدرته على فرض إيقاعه على أداء الحكومة. معظم التهديدات والمخاوف والتحذيرات التي تسمع اليوم ستبقى في دائرة الكلام ليس إلا.

المساهمون