تقدم الشعبويين في أوروبا: مؤشرات في صالح بوتين ومقلقة للغرب

تقدم الشعبويين في أوروبا: مؤشرات في صالح بوتين ومقلقة للغرب وأوكرانيا

04 أكتوبر 2023
فيكو خلال تجمع رافض لإجراءات كوفيد، سبتمبر 2021 (بيتر لازار/فرانس برس)
+ الخط -

دقّت نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في سلوفاكيا، السبت الماضي، مجدداً، ناقوس الخطر في أوروبا، إذ قدّمت مؤشراً جديداً على صعود تيارات شعبوية، سواء من اليمين القومي أو المتطرف أو اليسار، معادٍ لسياسات الاتحاد الأوروبي ويوصف بعضه بالقريب من الكرملين. ومن الواضح أن القلق الذي يثيره هذا التقدم على مستوى وسط وشرق أوروبا خصوصاً، لدى كل من بروكسل وأوكرانيا، له مبرراته. ففوز رئيس الحكومة السابق روبرت فيكو أخيراً في سلوفاكيا، مع حزبه "سميير" (سميير أس أس دي) بنحو 23 في المائة من الأصوات، وتكليفه بتشكيل الحكومة، يعد مقياساً لحالة أوروبية أوسع، مثيرة للجدل من ناحية، وللاطمئنان في موسكو من ناحية أخرى، من دون قدرة للقوى التقليدية في القارة على وقفها.

وإذ رفع فيكو، خطاباً شعبوياً خلال الحملة، مؤكداً رفضه انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ومحملاً كييف بنسبة كبيرة مسؤولية الغزو، فإن الاتحاد الأوروبي يخشى وصول زعيم دولة أوروبية أخرى، وفي حلف شمال الأطلسي (ناتو)، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، أو حزب "القانون والعدالة" القومي المحافظ الحكام في بولندا، واللذين يشكلان صداعاً دائماً للاتحاد.

وبات تقدم قوى اليمين القومي المتحفظة على الاتحاد وانخراطه مع الناتو في الحرب الأوكرانية، أو التيارات الشعبوية، محور قلق متعاظم في بروكسل، خصوصاً لأنه يصبّ في مصلحة الكرملين، ورغبته في ظهور تصدع في جدار العقوبات الغربية المفروضة على موسكو وتصلب المواقف الأوروبية تجاه العاصمة الروسية. وقد تكون نتائج انتخابات سلوفاكيا، هي ربما ما دفع سريعاً مفوض السياسة الخارجية لدى الاتحاد، جوزيب بوريل، لزيارة كييف، أول من أمس الاثنين، وطمأنتها بأن أوروبا ستواصل دعمها، حيث عقد وزراء خارجية الاتحاد اجتماعاً في العاصمة الأوكرانية، هو الأول لهم على الإطلاق خارج التكتل. وجاء ذلك فيما يثار أيضاً بعض القلق في واشنطن بشأن ثبات سياساتها الداعمة للمجهود الحربي لكييف.

ويتمثل مصدر القلق الأوروبي والسعادة الروسية في سلوفاكيا، بمحاولة روبرت فيكو العودة إلى منصبه السابق كرئيس لحكومة بلاده، والذي كان شغله مرتين، بين عامي 2006 و2010 ومن ثم بين 2012 و2018. علماً أن فيكو اضطر للتنحي في 2018 بعد خروج احتجاجات في أنحاء البلاد إثر مقتل الصحافي يان كوتشياك وخطيبته. وكشف كوتشياك عن العلاقة بين المافيا الإيطالية وحكومة فيكو في آخر تقرير نُشر بعد وفاته. وحزب "سميير" يساري رسمياً، لكنه منذ تأسيسه يرفع شعارات شعبوية قريبة لليمين المتطرف. ولم يتوان فيكو لدى تشكيله حكومته الأولى من التحالف مع اليمين المتطرف، علماً أنه خلال حملته الأخيرة أكد توجهاته المتماهية مع اليمين المتطرف، والرافضة لتوزيع المهاجرين، والقريبة من موسكو، والمتململة من الانخراط الغربي في أوكرانيا. ويأتي فوزه بالانتخابات في وقت كانت سلوفاكيا تعدّ منذ بداية الغزو الروسي من أكبر المانحين لكييف.

فوز فيكو يوسع جبهة الرافضين لانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي

ومع أن نسبة 23 في المائة لا تؤمن لفيكو الأغلبية المطلوبة لتشكيل حكومة، فإن خشية بروكسل هي أن يذهب إلى تحالف مع حزب "أس أن أس" (الحزب القومي السلوفاكي) المتشدد، أو إقناع الحزب اليساري الوسطي "هلاس" (منشق عن "سميير" وحصد 14.7 في المائة من الأصوات) لتشكيل ائتلاف حاكم.

"روسيا المسالمة والغرب المعتدي"

مكمن القلق الأوروبي، وعلى مستوى الأطلسي، أن فيكو واليمين المتشدد السلوفاكي يرفعان خطاباً داعياً إلى سياسة خارجية مختلفة عن الغرب الأوروبي. خطاب "ولا خرطوشة واحدة" الذي رفعه فيكو متعهداً بوقف دعم كييف، يعد بداية تصدع جدار الشرق القريب من الغرب الروسي. ففي سلوفاكيا، التي شكّلت مع التشيك جمهورية تشيكوسلوفاكيا قبل انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 (تفكك تشيكوسلوفاكيا حصل في يناير/كانون الثاني 1993)، وتعرضت لتدخلٍ سوفييتي (ومن حلف وارسو) لقمع "ربيع براغ" في عام 1968 (بمرحلة تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية)، ليس فيكو وحده المحسوب فيها بخانة "أصدقاء موسكو". هذا المعسكر يعول على اتجاهات عامة في صفوف الشعب (نحو 5.5 ملايين نسمة) أظهرها استطلاع مؤسسة "غلوبيسك" (في برتيسلافا) في مايو/أيار الماضي، حيث رأى 40 في المائة فقط من السلوفاكيين أن روسيا تتحمل مسؤولية الحرب، بينما حمّلت النسبة الكبرى المسؤولية للغرب. وفي مارس/آذار الماضي، أظهرت استطلاعات "غلوبيسك" أن 51 في المائة من السلوفاكيين يحمّلون الغرب مسؤولية الحرب في أوكرانيا. بل إن حوالي 50 في المائة منهم يرون أن الولايات المتحدة تعتبر تهديداً أمنياً لبلادهم أكثر من روسيا (هذه النسبة لم تتعد في عام 2022 الـ39 في المائة وفق المؤسسة ذاتها).

ويتبنى فيكو والفريق القومي المتشدد في سلوفاكيا مقولة رئيس الوزراء المجري القومي، فيكتور أوربان، أنه "لا يمكن ضمّ بلد في حالة حرب". ووصول فيكو (المحتمل) إلى الحكم، يعني توسع جبهة الرافضين لانضمام أوكرانيا، واستخدام حق النقض، كما يهدّد ذلك صمود العقوبات المفروضة على موسكو.

في خطاب له قبل أسبوع، خلال تجمع انتخابي، نقلت وسائل الإعلام الأوروبية عن فيكو قوله إن "الحرب تأتي دائماً من الغرب، والحرية والسلام يأتيان دائماً من الشرق". ويستغل فيكو ارتفاع منسوب التضخم في بلاده إلى أكثر من 11 في المائة، وتصاعد الأزمة المعيشية، حيث يربطهما بالحرب وانخراط سلوفاكيا في دعم أوكرانيا. وبعيداً عن الجزم بقدرة فيكو، الموصوف في بلده بأنه "حرباء متلونة"، تشكيل الحكومة، لا يمكن القفز عن النفوذ الذي سيمكّنه من تقرير لون وشكل الحكومة المقبلة.

صداع أوروبي

في جعبة فيكو أفكار عن تعزيز تحالف مجموعة "فيسغارد" (التي تضم إلى جانب سلوفاكيا، جمهورية التشيك وبولندا)، على اعتبار أنها تملك أرضية سياسية وثقافية مشتركة في مواقفها من الحرب في أوكرانيا ومسائل الهجرة واللجوء التي تتشدد فيها منذ 2015، وقضايا أخرى كثيرة تتعلق بالجنسانية والمثلية في القارة الأوروبية. وتعزّز ذلك الوقائع قبل انتخابات بولندا المقرّرة في 15 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، حيث يحافظ اليمين القومي المحافظ على قتاله من أجل الاستمرار في الحكم.

صحيح أن ائتلاف "القانون والعدالة" المتشدد في وارسو يتخذ من قضية الهجرة عنواناً لجذب الناخبين، مذكراً بالنهج الذي انتهجه أوربان منذ 2014، والتحريض بحجة "إنهم يغتصبون ويقتلون"، إلا أن الحرب في أوكرانيا حاضرة أيضاً.

تظل بولندا تشكل تربة خصبة للأفكار القومية المتشددة، حيث تتزايد النظرة النقدية والمتوجسة من العلاقة مع الاتحاد الأوروبي

فالعلاقة بين كييف ووارسو ليست بأفضل حال. وعلى خلفية تفضيل الاتحاد الأوروبي للصادرات الزراعية الأوكرانية، زاد الامتعاض في بولندا التي اعتبرت أن ذلك يأتي على حساب فلاحي البلد. واتخذت وارسو قبل أيام قراراً "انتخابياً" رمزي بوقف مدّ أوكرانيا بالسلاح، أي السلاح البولندي وليس الغربي.

وتفيد الاستطلاعات في وارسو بأن اليمين القومي المحافظ لا يزال متقدماً رغم التظاهرات الحاشدة التي شهدتها وارسو ضد الحكومة الأحد الماضي، والتي يكافح فيها رئيس الوزراء الأسبق ورئيس الاتحاد الأوروبي السابق دونالد توسك وأحزاب ليبرالية ومن يسار الوسط لقلب الطاولة على زعيم القوميين ياروسلاف كاتشينسكي. ائتلاف "القانون والعدالة" يتوقع له في بعض الاستطلاعات 32 في المائة، وبعضها يضع نسبة تصل إلى 38 في المائة في التنافس على 460 مقعدا. وتشارك أيضاً في الانتخابات كتل يمينية متطرفة، مثل "اتحاد الحرية والاستقلال"، المعادي بصورة متطرفة للمهاجرين، معتبراً أنهم يشكلون تهديداً للقيم العائلية، والذي يرفع صوته عالياً بوجه المثلية.

وتظل بولندا تشكل تربة خصبة للأفكار القومية المتشددة، حيث تتزايد النظرة النقدية والمتوجسة من العلاقة بين الاتحاد الأوروبي ووارسو. ومنذ سنوات تتوتر العلاقة على خلفية اتهام بروكسل بأن ساسة بولندا ينتهجون سياسة تمس بالأسس والمبادئ التي يقوم عليها الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها مسألة فصل السلطات والاستقلال القضائي والإعلامي، وسط اتهامات دائمة بانتشار الفساد وتدخلات السلطة التنفيذية. وليس غريبا أن حزب "سويرينا بولسكا" (بولندا السيادية) مشارك في الائتلاف الحكومي الحالي رغم أن موقفه سلبي جداً من بقاء البلاد في الاتحاد الأوروبي. وعلى الأرجح فإن ائتلاف الطريق الثالث (بمن فيهم حزب الفلاحين) لن يتجاوز الـ10 في المائة، وهي ذات النسبة التي تمنحها الاستطلاعات لليسار المتحد.

يبقى إذاً التنافس بين اليمين القومي المحافظ وائتلاف اللائحة المدنية، التي يتوقع لها أكثر من 26 في المائة. وإذا حافظت السياسات البولندية على نهجها المختلف مع أوروبا، وبرزت إلى السطح مجددا الخلافات على فصل السلطات، وتراجع حماسة دعم أوكرانيا، فإن ذات المعضلة السلوفاكية ستنتقل ككرة لهب يتقاذفها الغرب، بينما سيشعر الكرملين بارتياح لمسارات رياح تغيير ولو طفيف في المواقف الأوروبية.

ألمانيا وتطبيع التطرف

وفي ألمانيا، تبدو الأمور الانتخابية لليمين المتطرف بخير. نزيف اليسار (دي لينكه) يتواصل، حيث شكلت السياسية اليسارية ساره فاغنكنيشت أرقاً للحزب في محاولته محاصرة مواقفها المتشددة. فاغنكنيشت انتقلت إلى مواقف تتهم "دي لينكه" ويسار ألمانيا بأنه غير واقعي، ووجهت سهامها بصورة خاصة إلى سياسات الهجرة وقضايا دعم أوكرانيا.

تستغل اليسارية الألمانية سارة فاغنكنيشت إحباط الشارع

منذ خريف 2022 تثير فاغنكنيشت انتباه الشارع الألماني الممتعض مما تُطلق عليه "غياب الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية وربطاً للأزمات الاقتصادية باستمرار الحرب في أوكرانيا". مواصلتها في حصد شعبية يعني بحسب الاستطلاعات انكماش "دي لينكه"، إلى نحو 4 - 5 في المائة، بينما شعبيتها تحلق إلى المستوى الذي كانت عليه شعبية المستشارة السابقة أنجيلا ميركل. وإذا شكلت بالفعل حزباً سياسياً، وهو الأرجح بحسب تقديرات ألمانية، فإنها لن تحصل على أقل من 15 في المائة، لتجذب بذلك الأصوات الاحتجاجية المتزايدة في قاطرة الاتحاد الأوروبي.

معضلة اليسار مع فاغنكنيشت ليست أخف وطأة على معسكرات يمين ويسار الوسط التي تنظر بقلق كبير إلى تنامي تأييد الألمان لحزب "البديل لأجل ألمانيا" اليميني المتشدد، إذ تمنحه الاستطلاعات على المستوى الاتحادي ليس أقل من 22 في المائة، ويكتسح في بعض الولايات في الشرق ليكون قبل بقية الأحزاب التقليدية في ذلك المعسكر. بعض الاستطلاعات تمنح "البديل" في ولايات شرق ألمانيا نحو 30 في المائة في انتخابات العام المقبل بولايات ساكسونيا وتورينجيا وبراندنبورغ، متفوقا على "الاشتراكي الديمقراطي" و"المسيحي الديمقراطي".

بشكل عام، ومع أن أوروبا تواصل تأكيدها الالتزام بسياساتها المنتهجة حيال عدد من القضايا، بما فيها المتعلقة بأوكرانيا والعقوبات على روسيا، فمن الواضح أن معسكر "أصدقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، من أصحاب الصوت المرتفع أو المنخفض، يخرج مع استمرار الحرب عن تردده في إبداء مواقف معارضة حتى لاعتبار دعم كييف من الأمور المسلم فيها.

وتقدم معسكرات اليمين والشعبويين، وفرضه نفسه على العملية السياسية في أكثر من بلد، يحتم على الطبقات السياسية القائمة أخذه بالاعتبار، وهو ما دلت عليه التجارب من اليونان وإيطاليا وإسبانيا وهولندا ودول البلطيق الصغيرة وصولا إلى الدنمارك والسويد، ولاحقا ألمانيا. وإذا كان الأمر أكثر وضوحاً في شرق أوروبا وجنوب شرقها (كبلغاريا ورومانيا)، وفي وسطها بوجود رئيس الوزراء أوربان، فإن استمرار التطورات بهذا المنحى يعني بالنسبة لبوتين فرصة لإحداث شرخ في الجدار الغربي المناهض لبلده.

ولا يغيب أن أوروبا متجهة في صيف 2024 لانتخابات برلمانها. وتتأهب كتل اليمين والشعبويين لتحقيق تقدم فيها يمنحها الكثير من النفوذ على مستوى إقرار سياسات الهجرة والموقف من أوكرانيا.

تقارير دولية
التحديثات الحية