بوادر تنازلات شكلية لاحتواء أزمة قانون "الأمن الشامل" في فرنسا

01 ديسمبر 2020
+ الخط -

اهتزت الصورة المثالية التي حاولت الحكومة الفرنسية والإليزيه تصديرها إلى المواطنين أمام حالة الاحتجاج المتصاعدة تجاه قانون "الأمن الشامل"، فلم يعد المدافعون عن هذا القانون يتحدثون من دون ضوابط، أو بنبرة تحدٍّ كتلك التي حرص وزير الداخلية، جيرالد درمانان، على التحدث بها خلال مقابلاته الأخيرة مع وسائل الإعلام.
وكان الهدف من هذا القانون، بحسب العبارة الشهيرة التي يكررها درمانان، "حماية الفرنسيين وأولئك الذين يحمونهم"؛ في إشارة إلى قوات إنفاذ القانون. لكن هذه العبارة فقدت مصداقيتها مع حوادث عديدة سقطت على رأس الأغلبية النيابية لحزب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، "الجمهورية إلى الأمام" صاحب فكرة القانون مع درمانان، أظهرت أن الفرنسيين بحاجة فعلاً إلى من يحميهم من عنف الشرطة.
بداية الأحداث التي شغلت الرأي العام الفرنسي كانت في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي عندما تظاهر الآلاف أمام البرلمان بالتزامن مع نقاشه للمادة 24 من القانون، التي تنص على فرض عقوبة بالسجن سنة ودفع غرامة قدرها 45 ألف يورو في حال بثّ صور لعناصر من الشرطة بدافع "سوء النية". 
يومها تعرض المحتجون، الذي يعترضون على هذه المادة لأنها تقويض لحرية التعبير والإبلاغ عن معلومات، إلى عنف مفرط من قبل قوات الأمن، وكان جل المصابين من الصحافيين والمصورين. وتكرر هذا المشهد بعدها بيومين، حيث طاول هذا العنف المفرط نواباً في البرلمان ومسؤولين منتخبين، نزلوا إلى ساحة الجمهورية لمحاولة حماية مهاجرين ولاجئين اعتصموا للمطالبة بتأمين مسكن لهم من الشرطة التي حطمت خيامهم واعتدت عليهم.
وكانت الواقعة الكبرى التي فجّرت كل شيء دفعة واحدة ظهور شريط مصور يظهر اعتداء دورية للشرطة على المنتج الموسيقي، ميشيل زيكلر، داخل الاستوديو الخاص به في باريس، لتصبح صورة وجهه الغارق في الدماء دافعاً لعشرات الآلاف للنزول إلى الشارع والهتاف "كل الناس تكره الشرطة" يوم السبت الماضي.

 

وفي وقت متأخر من ليل أمس الاثنين، أبدى درمانان مع نواب الأغلبية التابعة للرئيس، للمرة الأولى منذ اشتعال الأزمة، مرونة في تقديم تنازلات. واعترف وزير الداخلية بوجود "أخطاء" يرتكبها عناصر الشرطة خلال جلسة استماع للجنة القانونية في مجلس النواب، في حين أعلن رئيس الكتلة البرلمانية لحزب "الجمهورية إلى الأمام" كريستوف كاستانير قرار حزبه "بإعادة صياغة كلية للمادة 24 من قانون الأمن الشامل"، بناء على توصية من ماكرون.

 

ووفق تسريبات خرجت على الملأ، اليوم الثلاثاء، فإن ماكرون يشعر بأن الحكومة وضعته في ورطة كبيرة، وعبّر عن ذاك خلال اجتماع مغلق جمعه أمس مع رئيس الوزراء جان كاستكس، ووزيري العدل اريك دوبوند موريتي، والداخلية جيرالد درمانان. ويبدو أن هذا الاجتماع كان لمنع اتساع الهوة بين المسؤولين الثلاثة، خصوصاً مع تراجع أبداه رئيس الوزراء ووزير العدل عن تأييدهما لتشدد درمانان في إصراره على عدم سحب أو تعديل المادة 24 في نص القانون.
والواقع أن درمانان يبدو وحيداً ومعزولاً الآن في هذا المشهد مع ابتعاد زملائه في الحكومة عنه، والغضب الذي أظهره ماكرون، إذ تشير التسريبات إلى أن المقربين من ماكرون يتهمون وزير الداخلية بإشعال نار سيصعب إطفاؤها، وهو ما سمح بإضفاء مناخ عدائي ضد درمانان، الوزير المعروف بأنه تلميذ الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، وارتفعت أصوات المعارضة من صفوف اليسار، والمحتجين عموماً، للمطالبة باستقالته.

 

هذه الأجواء المشحونة بين الرئيس ووزير داخليته ليس من الواضح تماماً ما إذا كانت حقيقية أم مجرد محاولة من الإليزيه لإبعاد ماكرون عن نيران هذه الأزمة وإظهاره كضامن لحرية تعبير مستهدفة من قبل قانون "الأمن الشامل"، لكن بلا شك لا يبدو أن الأمور متجهة إلى إقالة درمانان، خصوصاً في هذا الوقت الحساس الذي يعدّ فيه ماكرون خطته للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2022.

 

وفضلاً عن كل ذلك، لم يكن درمانان سوى وزير ينفّذ خطة ماكرون لتلك الانتخابات، وقانون "الأمن الشامل" جزء مهم جداً من تلك الخطة، بالإضافة إلى الحملة التي يقودها بطلب من الرئيس، ضد "الإسلام الراديكالي" في فرنسا، بما يداعب ناخبي اليمين واليمين المتطرف. وإقالة درمانان في هذا الوقت هي خسارة كبرى للرئيس تعني تخليه عن كل ما طلبه من وزير الداخلية، وهو برغم إدارته الفوضوية لتلك الخطط، نجح بشكل كبير في إبقاء اليمين واليمين المتطرف بعيداً من تظاهرات يوم السبت، التي لم تشهد حضور أحد منهم، وهذا يعطيه أفضلية كبيرة حتى الآن في عدم سحب المادة 24. أما مسألة تعديل صياغتها، فمن غير الواضح حجم التنازل فيها مع فقر المفردات التي سيمتلكها لتعديل هذا النص الضيق.

المساهمون