الفلسطيني الغاضب... شيفرة البقاء

الفلسطيني الغاضب... شيفرة البقاء

16 فبراير 2024
تختزل "مفاتيح الدور" رفض استسلام شعب فلسطين (حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -

تهتم العلوم النفسية، بحقولها المتعددة، بتوابع وأعراض اضطراب ما بعد الصدمة، متعددة المصادر، كالاعتقال والتعذيب، وعنف الحروب، وغيرها كثير. ويمكن تخيل تبعات صدمات الخسارة الجماعية لمقومات الحياة، كما عند ملايين السوريين بعد قمع تطلعاتهم نحو الحرية، وصدمات الحرب عند مئات آلاف اللبنانيين، وغيرهم في عالمنا العربي.

في الحالة الفلسطينية، ومنذ نكبة عام 1948، ثمة ما يشبه أعراض صدمة جماعية مستمرة. وللمرء تخيل أن يصحو شعب على وطنه وعلمه ومدنه بأسماء أخرى.

وتحت وقع المذابح يُستورد آخرون لإحلالهم مكان الشعب الأصلي، بأساطير وخرافات دينية. فليست الصدمات وحدها تتوسع، بل الغضب والتمرد على أن تصير التغريبة (الاقتلاع) ثابتاً من ثوابت حياته. وقصة "مفاتيح الدور"، التي حملها الأجداد في "بقج" اللجوء، واحدة من اختزالات الرفض الجمعي لإسقاط الصدمات على شكل رضوخ واستسلام شعب فلسطين.

أمام الجميع في غزة 2024 تغريبة من دم ولحم. "رفح" تُذكّر بسيرة الخذلان الرسمي العربي، أو ما يسميه الفلسطيني "العمق العربي"، في مطالبته "الموت بصمت". فبينما يتفاخر الاحتلال الصهيوني بقوافل الشاحنات تعبر إليه من الأرض العربية، يُجوّع الفلسطيني مُحاصراً. مشهد بالتأكيد لا يؤسس بين ملايين فلسطينيي الصدمات سوى مزيد من أعراض الغضب والتمرد.

ربما تعبّر تلك الأعراض بينهم عن "شيفرة البقاء"، رفضاً للذل والاستسلام لـ"الأمر الواقع". فلا عربدة المستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، ولا دموية الاحتلال في جرائم الحرب والإبادة، ولا محاولات الأسرلة في داخل الخط الأخضر، حيث يعيش الناس على بضع خطوات من أرضهم الممنوعين منها، ولا تآمر غربي وإقليمي، تستطيع انتزاع معاني: أنا من هنا، مقابل المستوردين استعماراً وإحلالاً.

وغزة اليوم ليست مجرد "عدوان إسرائيلي" و"صفقات"، بل إضافة جديدة إلى الصدمات المولدة لغضب فلسطيني متراكم منذ سيرة "جيش الإنقاذ العربي" (1948)، يرفض من المهد إلى اللحد هضم الاستسلام، سواء من سياسييه أو من سياسات عربية.

فشيفرة البقاء، التي يُفطم عليها صغار فلسطينيي "75 سنة نكبة"، هي الكاسرة لأمنية صهيونية عن موت الكبار ونسيان الصغار لفلسطين. ليس فقط على أرضهم التاريخية، بل حتى في منافي الشتات الغربي، يصرون على أجوبتهم: أنا من صفد، الخالصة، لوبية، ترشيحا، صفورية، الطيرة، شفا عمرو، عكا، حيفا، يافا، قضاء جنين، قضاء الناصرة، عسقلان، النقب، إلى آخره من معرفات الجذور، المتخذة لها في "أزقة أحياء" مخيمات اللجوء استحضار فلسطين بتفاصيلها، من النهر إلى البحر، كتحدٍ يحيل صدماته إلى تمرد على واقع سلب الكرامة والحرية والعدالة. 

كان يمكن للفلسطيني، والعربي الحر، أن يسير بمحاذاة الجدران، مردداً: "امشي الحيط الحيط وقل يا رب الستر"، متجنباً فردياً وجماعياً استهدافاً عربياً وغربياً بحجة سخيفة عن "دعم الإرهاب"، وألا يثور لكرامته وعدالة قضيته.

وكان يمكنه في صدماته أن يصير جزءا من حالة رسمية عربية تتلمس بوصلة إرضاء سياسات الغرب، ولو على حساب مصالح بلادها، وأن يقبل الأسرلة، ويعيش كيفما أريد له، خانعاً ذليلاً، بعيداً عن "صداع السياسة"، لا شأن له بحرية وطنه وشعبه، وأن يحيا وفق "مبادئ" الاستسلام للأمر الواقع، المبررة لزحف التطبيع والمقايضات. لكنه حينئذ لن يكون فلسطينياً ولا عربياً حراً.