بين عودة تظاهرات الحراك الشعبي وتصاعده مجدداً في أكثر من ولاية ومدينة جزائرية، وبين مباشرة السلطة السياسية الترتيبات الممهدة لانتخابات نيابية ومحلية مبكرة، تبدو المسافة متباعدة بين المسارين. وتبرز حيال ذلك فكرة عقد حوار "طاولة مستديرة"، تبادر به السلطة ويجمع كل القوى الفاعلة ومكونات مدنية، لصياغة تفاهمات والتزامات تسمح بفتح مسار جديد وتنظيم انتخابات نيابية في ظروف مغايرة تماماً للظروف الراهنة التي تتسم بالتوتر.
لكن بعد أسبوعين من لقاءات الحوار السياسي التي جمعت الرئيس عبد المجيد تبون بعدد من قادة الأحزاب السياسية الفاعلة، لا يبدو أن هذه اللقاءات أضافت معطى جديداً للساحة، أو غيّرت مواقف سياسية. فحركة "مجتمع السلم"، أكبر الأحزاب الإسلامية في الجزائر، والتي التقت قيادتها بالرئيس مرتين، لا تزال تعبّر عن توجس كبير من صدق نوايا السلطة في الالتزام بتطهير المشهد السياسي والانتخابي من كل الممارسات المضرة بمصداقية الانتخابات وبشرعية المؤسسات المنتخبة وبمنع تدخلات الإدارة والأجهزة الأمنية. من جهتها، تبدو "جبهة القوى الاشتراكية"، وهي أبرز أحزاب التيار التقدمي، والتقت قيادتها بتبون كذلك أخيراً، الأقل ثقة في الرئيس، وأكثر اقتناعاً بأنّ استمرار الظروف الراهنة وبروز بعض المؤشرات، كعودة الاعتقالات والتضييق على التظاهرات في غير العاصمة الجزائرية، ورفض السلطات ترخيص أحزاب منبثقة عن الحراك تكريساً لحق دستوري في تنظيم أنفسها، وكذلك رفض السلطة رفع يدها عن الإعلام، لن تقود إلى انتخابات تحلّ الأزمة بقدر ما تعقدها.
يعتقد مقترحو حوار "الطاولة المستديرة" أن هذا الخيار هو الأسلم لضمان العبور من الأزمة الحالية
وفي السياق، تتداول بعض المجموعات السياسية وقيادات في أحزاب فاعلة فكرة تقديم مقترح سياسي إلى تبون من أجل عقد حوار "طاولة مستديرة" موسّع، تشارك فيه كل القوى السياسية والمدنية والشخصيات المستقلة، ويفضي إلى توافقات مشتركة تسمح بتهيئة الظروف المناسبة للذهاب إلى انتخابات نيابية ناجحة، تضمن مشاركة أكبر قدر من الجزائريين، وانخراطاً مجتمعياً واسعاً في المسار الانتخابي. وتعتقد هذه الأطراف أن هذا الخيار هو الأسلم لضمان العبور من الأزمة الحالية، خصوصاً أنّ خطوات التهدئة التي اتخذها الرئيس لا تبدو مقنعة بالنسبة للكثير من الأطراف ولا سيما للحراك. وتشير معلومات حصلت عليها "العربي الجديد" من مصادر مطلعة، إلى أنّ اتصالات جارية لصياغة وإطلاق هذا المقترح والدعوة إلى حوار موسع بين الرئيس وقيادات سياسية ومدنية بصورة مشتركة، باعتبار أنه أكثر ما يمكن أن يطمئن الرأي العام والشارع، بوجود جدية وصدقية لدى السلطة السياسية بشأن المضي في طريق الانفتاح الديمقراطي، كما أنه يشكل ضمانة لالتزامات السلطة بشأن المسارات الثلاث؛ السياسي والانتخابي والديمقراطي. ووفقاً للمصادر نفسها، فإنّ هذا المقترح كان من المقرر أن يقدم إلى تبون بعد عودته من رحلته العلاجية في ألمانيا، لكن الشخصيات التي تشتغل عليه، فضلت توسيع الاتصالات بشأن المقترح.
ويرى المتحدث باسم "جبهة القوى الاشتراكية"، جمال بالول، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الواقع السياسي يؤكد أنه لا بديل عن حوار يفضي إلى ندوة وطنية جامعة تطرح فيها كل المقترحات ووجهات النظر، ثمّ يتم التوافق حول مخرجات يلتزم بها الجميع، فذلك هو السبيل والحل الوحيد والممكن للخروج من المأزق الذي وصلت إليه البلاد". لكن بالول يبدي تخوفه مما وصفه "محيط الرئيس الذي يدفعه إلى ارتكاب أخطاء، والمضي قدماً في خريطة الطريق الانتخابية، وتنفيذ خيارات ما هي إلا استنساخ للفشل، ودفع الجزائريات والجزائريين للعزوف وعدم المشاركة في مسارات السلطة، وبالتالي إنتاج مؤسسات هشة فاقدة للشرعية".
ويشير بالول إلى أنّ مقترح عقد حوار طاولة مستديرة "يمكن أن يكون مطلب الأحزاب والكتل السياسية بدون أن تخشى انتقادات الحراك الشعبي بسبب الحوار مع السلطة". وبرأيه، فإنه "لا يمكن منع الأحزاب من المبادرة واقتراح حلول وأفكار من أجل المساهمة في تكريس طموحات الشعب المشروعة في التغيير والقطيعة مع المنظومة الفاسدة". ويضيف "هذا هو دور الأحزاب والنخبة السياسية، وما يمكن اشتراطه مسبقاً على الأحزاب وأصحاب المبادرات، هو الحرص على عدم الالتفاف على مطالب الشعب وعلى أهداف الثورة السلمية. بمعنى أنّ كل المساعي يجب أن تكون في سبيل تحقيق الهدف الأساسي، وهو التغيير الجذري السلمي والقطيعة مع منظومة الحكم السائدة في البلاد منذ عقود من الزمن".
ويقترح المتحدث باسم القوى الاشتراكية أن "يتواصل الفاعلون السياسيون، أحزاباً وتنظيمات مستقلة وشخصيات سياسية، لفحص وتقاسم تجارب ومبادرات واتخاذها كأرضية، كلقاء الجمعيات والنقابات في 15 يونيو/حزيران 2019، ومؤتمر قوى التغيير (الذي عقدته أحزاب عدة في منطقة عين البنيان غربي العاصمة الجزائر) في يوليو/تموز 2019، وحوار قوى البديل الديمقراطي في 26 يونيو 2020، ونداء 22 فبراير/شباط 2021. إذ يمكن جمع كل المخرجات عن هذه المبادرات، في إطار ندوة تسبقها نقاشات وتنازلات من أجل صياغة وثيقة ومبادرة مشتركة توافقية من أجل تكريس التغيير ودمقرطة النظام السياسي وبناء دولة القانون. بعدها تعرض الوثيقة على السلطة باسم غالبية الطبقة السياسية والفاعلين، لتتحمل بعد ذلك السلطة وأصحاب القرار الفعلي المسؤولية بشأن مسار التغيير التوافقي".
بلعربي: يصرّ الرئيس والسلطة على المضي في مسار أحادي
لكن قوى في الحراك الشعبي تعتقد أنّ السلطة ليست مستعدة لحوار طاولة مستديرة، وأنها مصرة في المقابل على تقديم عرض سياسي واحد ومصاغ من طرفها بدون الاستماع إلى وجهات نظر أخرى. وتفسر هذه القوى رأيها هذا بالإشارة إلى تصريح تبون في آخر حوار تلفزيوني له بث قبل أسبوعين، أبدى فيه عدم اهتمامه بنسبة المشاركة في الانتخابات النيابية المبكرة، ما يعني أنه مصرّ على تنظيم الانتخابات في الظروف الراهنة، بمن حضر؛ ترشحاً وانتخاباً. وتشير تقديرات بعض مكونات الحراك إلى أن تبون يبدو مكتف بالحوارات الجانبية التي أجراها مع قادة بعض الأحزاب السياسية، أبرزها حركة "مجتمع السلم" و"جبهة القوى الاشتراكية" وحزب "جيل جديد".
في السياق، يعرب الناشط البارز في الحراك الشعبي، سمير بلعربي، رداً على سؤال لـ"العربي الجديد" عما إذا كان يتوقع أن يدعو الرئيس إلى حوار طاولة مستديرة وما إذا كان ذلك ضرورة في الوقت الحالي لحل الأزمة، عن اعتقاده بأنّ "تبون، وبعد أكثر من سنه على تنصيبه، ضيّع فرصاً كثيرة لإحداث تغيير حقيقي في طبيعة النظام، والذهاب إلى مرحلة جديدة يُستجاب فيها لمطالب الحراك تدريجياً". ويضيف "بعد عدد من اللقاءات التي نظمها مع قادة أحزاب وشخصيات مختلفة، يصرّ تبون والسلطة السياسية على المضي في مسار أحادي يضمن استقرار النظام السابق نفسه ويعيد الوجوه السابقة للحكم". ويقول إنه "اليوم بعد عودة الحراك السلمي وإصرار المشاركين فيه على أهداف ثورة فبراير، لا يُتوقع أن يغيّر تبون في خريطة الطريق التي وضعها، وهو سيمضي في الدعوة إلى تنظيم التشريعات والمحليات بمن حضر من أحزاب، لأنه يرفض التنازل ويصرّ على إعادة هيكلة النظام وفق خريطته، حتى بعد عودة الحراك وتصاعده".