اضطرابات كورسيكا تسرّع احتمال منحها "حكماً ذاتياً"

اضطرابات كورسيكا تسرّع احتمال منحها "حكماً ذاتياً"

19 مارس 2022
القوميون يهاجمون مبنى حكومياً في باستيا الأحد الماضي (باسكال بوشار ـ كازابيانكا/فرانس برس)
+ الخط -

عادت التوترات إلى جزيرة كورسيكا الفرنسية، التي تنادي بالانفصال عن فرنسا، إثر الاعتداء بالطعن في السجن على القومي الكورسيكي إيفان كولونا في 2 مارس/آذار الحالي، والذي دخل في غيبوبة منذ ذلك الحين.

وكولونا مسجون مدى الحياة بتهمة قتل مسؤول الإدارة المحلية كلود إيرينياك في 1998، الممثل الأعلى للحكومة الفرنسية في الجزيرة، في سياق الاضطرابات التي تشهدها كورسيكا منذ عام 1976، التي ترفض الارتباط مع باريس لأسباب تاريخية وديمغرافية وسياسية.

وكان كولونا قد توارى عن الأنظار بعد عملية الاغتيال، وشكّت السلطات الفرنسية في هروبه إلى أميركا الجنوبية، قبل اعتقاله في عام 2003 في الجبال الكورسيكية. وفي 13 ديسمبر/كانون الأول 2007 حكم القضاء على كولونا بالسجن مدى الحياة، على الرغم من طلبه "البراءة"، ونُقل إلى سجن "لا فارليد" في تولون الساحلية.

ولم يكن ردّ الفعل الرسمي عنيفاً تجاه التطورات الأخيرة في كورسيكا، قياساً على حالات القمع في السابق، خصوصاً في الربع الأخير من القرن الماضي. بل أبدى المسؤولون الفرنسيون انفتاحهم على مناقشة موضوع "منح كورسيكا حكماً ذاتياً"، كأقصى حدّ يمكن الوصول إليه ضمن دولة فرنسية واحدة.

وفي حال تحقق ذلك، ستكون كورسيكا، وهي من الأقاليم الفرنسية الـ18، قد حققت جزءاً من طموحاتها لأن طبيعة الحكم الذاتي في سياق دولة فرنسية، ستسمح لها بالتحرّر الاقتصادي جزئياً، تحديداً في مسألتي السياحة والتصرّف ببيع العقارات للأجانب، واستخدام اللغة الكورسيكية في التعاملات الرسمية في الجزيرة، فضلاً عن ترتيب هيكلية سياسية انتخابية، تسمح بعدم تدخّل باريس، شرط ألا يؤدي هذا التطور إلى دعوات مستقبلية للانفصال.

مع العلم أن الخطاب الرسمي للقوميين الكورسيكيين، قبل الاعتداء على كولونا، يتمحور حول الاعتراف بخصوصية الجزيرة وإدراج ذلك في الدستور الفرنسي. ومثل كاليدونيا الجديدة والمارتينيك، يطالبون أيضاً بمنح الجزيرة وضعاً ضريبياً واجتماعياً خاصاً والاعتراف بلغتها لغة رسمية أخرى ونقل السجناء الكورسيكيين إلى مسافة أقرب.

وعد باريس بالحكم الذاتي

وأكد وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، مساء الثلاثاء الماضي، أن بلاده مستعدة "للوصول إلى حد منح حكم ذاتي" لكورسيكا. لكن الوزير الذي زار الجزيرة يومي الأربعاء والخميس الماضيين، شدّد في مقابلة مع صحيفة "كورس ماتان"، على أن الشرط المسبق لأي مفاوضات بين المسؤولين المنتخبين في كورسيكا والحكومة، هو عودة الهدوء.

وأوضح "لا يمكن حصول حوار صريح في نظام ديمقراطي تحت ضغط المقذوفات والانتشار المهيمن للقوى الأمنية". لكن موقف دارمانان، المدعوم من الرئيس إيمانويل ماكرون، لا يحظى بإجماع سياسي داخلي.

وتحولت الاضطرابات في كورسيكا إلى مادة للتوظيف الانتخابي قبل إجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 10 إبريل/نيسان المقبل و24 منه، وانقسمت الآراء بين مؤيد لطرح الحكم الذاتي وبين المعارضين.

وهو ما دفع البعض إلى اعتبار أن دعوة باريس، وللمرة الأولى، لدعم "الحكم الذاتي" في كورسيكا، نابعة من خشيتها من التدهور المفاجئ للجزيرة وانعكاساته على باقي أقاليم ما خلف البحار من جهة، ولتمرير الانتخابات الرئاسية بأكبر قدر ممكن من الهدوء من جهة أخرى، في سياق سعي الإليزيه إلى احتواء الموقف. وهو ما يطرح مسألة مدى التزام ماكرون في تنفيذ وعوده للجزيرة بعد انتخابه لولاية ثانية. 


انقسم الداخل الفرنسي بين مؤيد للحكم الذاتي وبين رافض له

واعتبر مرشح البيئة والخضر يانيك جادو أن من حق كورسيكا المطالبة والحصول على "حكم ذاتي شرعي"، مشيراً خلال تصريح لقناة "فرانس 2" إلى أن حزبه يدافع عن هذه الفكرة منذ أشهر.

وأعرب جادو عن استيائه من أن تنتظر الحكومة وقوع مأساة (قضية كولونا) "لتحاول إيجاد حلول". من جهته، دعا رئيس "الحزب الجديد لمناهضة الرأسمالية" (أقصى اليسار) فيليب بوتو إلى وضع "قانون خاص" بالجزيرة، معترفاً بـ "شرعية ثورة سكان كورسيكا لا سيما شبابها". وقال: "نحن مع حق الشعوب بتقرير مصيرها، ومع الاعتراف بقانون ولغة وثقافة وحق هذه الشعوب لإدارة شأنها كما تريد".

لكن مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، ذهبت بعيداً متحدثة عن رفض منح كورسيكا الاستقلال، بل "يجب أن تبقى فرنسية"، على الرغم من عدم طرح أي طرف، بمن فيهم القوميون، هذه الفكرة. لكن لوبان أرادت إظهار أن "الحكم الذاتي" يوازي "الاستقلال" وفقاً لمفهومها.

كذلك اتهمت مرشحة اليمين فاليري بيكريس ماكرون بأنه "رضخ للعنف"، وطالبت "باستتباب الأمن في كورسيكا قبل الخوض في أي مفاوضات". وقالت بيكريس لإذاعة "أر تي إل"، إن الحكم الذاتي "يجب أن يتم في إطار الجمهورية ولا يمكن أن يؤدي لتفكيك الجمهورية".

تقارير عربية
التحديثات الحية

من جهتها، اعتبرت المرشحة الاشتراكية، عمدة باريس آن هيدالغو، أن الحكومة "فشلت في التعامل" مع الأزمة في كورسيكا، مطالبة في تصريحات لإذاعة "أوروبا 1"، بالحوار وبتبني "حكم ذاتي تشريعي لأجل البقاء في الجمهورية".

كما عارض المرشح الشيوعي فابيان روسيل منح كورسيكا نظام الحكم الذاتي، معتبراً أن ذلك لن "يملأ ثلاجات سكان كورسيكا" في إشارة إلى القدرة الشرائية. بدوره، ركز المرشح اليميني المتطرف إيريك زيمور، على مصطلح "الهوية"، ذاكراً في بيان أن الحكم الذاتي "لا يستجيب لرهانات الوقت"، معرباً عن دعمه لـ "هوية فخورة لكورسيكا قوية ضمن فرنسا قوية".

وتباينت آراء المحللين في الصحف الفرنسية، إذ رأى الكاتب باتريك روجيه في "لو موند"، أن "دارمانان لم يكن ليقترح الحكم الذاتي لكورسيكا، لو لم يكن ممنوحاً له من الإليزيه".

وأشار إلى أن وزير الداخلية تشاور مع رئيس المجلس الإقليمي في كورسيكا، القومي جيل سيميوني، حول اتّباع "نموذج بولينيزيا" في المسألة الكورسيكية. ويتمحور هذا النموذج في بولينيزيا التي لا يتعدّى عدد سكانها 300 ألف نسمة، أي أقل بقليل من كورسيكا التي تضمّ نحو 350 ألف نسمة، التمتع بمجال واسع لإدارة شؤونها، بموجب المادة 74 من الدستور الفرنسي.

ويعني هذا الأمر خضوع كل الأقاليم لمركزية باريس بجميع الملفات المتعلقة بالسيادة (مثل العدالة، الأمن، الدفاع، السياسة الخارجية)، على أن تنحصر حرية الإقليم المعني في قانون العمل والقوانين البيئة والتنمية والصحية، وغيرها. وسبق لزعيم اليسار جان ـ لوك ميلانشون، أن دعا في العام الماضي إلى تطبيق المادة 74 من الدستور، في حال طلبت كورسيكا ذلك.

بدورها، كشفت "فرانس إنفو" أن القوميين الكورسيكيين قدّموا، أول من أمس الخميس، بروتوكولاً للخروج من الأزمة الحالية لدارمانان، يبدأ بالعفو عن قتلة إيرينياك، والكشف عمّن اعتدى على كولونا في السجن، ثم بدء ترجمة وعد منح الحكم الذاتي لكورسيكا بحلول نهاية العام الحالي. وسعى القوميون للحصول على توقيع دارمانان، متوعّدين بأن العنف سيُصبح أسوأ في حال لم يلتزم ماكرون بوعوده بعد انتخابه لولاية ثانية.

وفي مقال مشترك للكاتبين بيار نيغريل وجولي كيليسي ـ أورلاندي في "كورس ماتان"، اعتبرا أن "الدولة الفرنسية والقوميين يتحدثون عن نوعين من الحكم الذاتي". وتطرقا إلى عبارة لسيميوني قال فيها: "الحكم الذاتي بموجب القانون والممارسة لا يعني استقلالاً".

ونقلا عن المحاضر في جامعة كورسيكا، أندريا فازي، قوله: "سيكون من الأفضل التحدث عن الاستقلال التشريعي، بما يسمح للسلطة التشريعية المحلية بصياغة القوانين من دون أي رقابة سياسية"، من باريس.


شكّلت كورسيكا نقطة انطلاق لوصول ديغول إلى السلطة في عام 1958

لكن حدود "الحكم الذاتي" لن تكون متاحة في كل القطاعات، فماكرون الذي زار الجزيرة في فبراير/شباط عام 2018، حدّد خطوطاً حمرا لا يمكن تجاوزها، وإلا فقد تؤثر سلباً على مركزية فرنسا.

وعلى الرغم من إعرابه عن استعداده للاعتراف بخصوصية كورسيكا، وتأييد "ذكر كورسيكا في الدستور الفرنسي، كطريقة للاعتراف بهويتها وترسيخها في الجمهورية"، غير أنه رفض مطالب القوميين الأخرى، خصوصاً إعلان اللغة الكورسيكية لغة رسمية ثانية في فرنسا ومنح وضع إقامة خاصة للكورسيكيين يميزهم على فرنسيي البرّ، الذين يلامون على ارتفاع أسعار العقارات.

مسقط رأس نابوليون بونابرت

تاريخياً، عُدّت كورسيكا جزءاً من جمهورية جنوى الإيطالية لنحو 5 قرون، بين عامي 1284 و1755، ويتحدر سكان الجزيرة بغالبيتهم من إيطاليا، بسبب القرب الجغرافي، وهو ما يظهر من خلال الأسماء الإيطالية لسكان الجزيرة، فضلاً عن ثقافتها العمرانية والاجتماعية المستوحاة من مقاطعة توسكانا الإيطالية.

وفي عام 1755 أعلنت كورسيكا استقلالاً من جانب واحد، قبل أن تتنازل جنوى عنها لمصلحة فرنسا في عام 1768، من أجل إيفاء ديونها لباريس. وسعى أهالي الجزيرة البالغة مساحتها 8722 كيلومتراً مربّعاً للحصول على الاستقلال من الفرنسيين، على الرغم من أن الإمبراطور الفرنسي، نابوليون بونابرت، يتحدر من مدينة أجاكسيو، عاصمة الجزيرة.

وبعد عقود من التوترات، وبروز عالم جديد بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، عادت الجزيرة للمطالبة باستقلالها، لكنها كانت محورية في أزمة مايو/أيار 1958، حين هبطت قوات من المظليين الفرنسيين فيها، آتية من الجزائر، التي كانت مستعمرة فرنسية في حينه، لإتمام الانقلاب على "الجمهورية الرابعة" وتأسيس "الجمهورية الخامسة" بقيادة الجنرال شارل ديغول.

غير أنه بين أواخر الخمسينيات ومطلع السبعينيات، تحوّلت مناطق (تحديداً لارك دي لارجانتيّا) في كورسيكا، التي تهيمن الجبال على ثلثي أراضيها، إلى قاعدة للتجارب النووية، مع إفرازاتها البيئية السلبية.

وبالإضافة إلى ذلك، دفعت باريس بـ18 ألف شخص من "الأقدام السوداء"، وهم الأوروبيون الذين سكنوا في الجزائر أثناء الاستعمار، وغادروها بعد التحرير، للإقامة في كورسيكا، مثيرة احتجاجات سكان الجزيرة ضدها.

وأدى ذلك في 4 مايو 1976، إلى إعلان "جبهة تحرير كورسيكا" حرباً استقلالية، عبر تفجير مراكز الدولة الفرنسية في الجزيرة، وصولاً إلى تفجير مصارف ومراكز في المدن الفرنسية خارج الجزيرة، وضمنها باريس وليون.

لكن في مطلع التسعينيات، تراجعت العمليات العسكرية، مع وقوع خلافات داخلية في صفوف القوميين، لأسباب شخصية، تشبه الخلافات بين عائلات صقلية الإيطالية. وفي عام 2016، أعلنت "الجبهة" الانتهاء من العمليات العسكرية والانخراط في العمل السياسي.

وقبل الزيارة الثانية لماكرون للجزيرة في إبريل 2019، عاد التدهور الأمني مع اكتشاف متفجرات في مبان رسمية في باستيا، وتفجير منزلين. وفي سبتمبر/أيلول 2019، أعلنت مجموعة من القوميين إحياء "جبهة تحرير كورسيكا" مجدداً، عبر شريط فيديو.
(العربي الجديد)