احتجاجات كوبا: طفح الكيل

احتجاجات كوبا: طفح الكيل

13 يوليو 2021
واجهت السلطات التظاهرات بالقمع (ياميل لاج/فرانس برس)
+ الخط -

شهدت كوبا، أول من أمس الأحد، تظاهرات شعبية حاشدة، خرجت في مدن عدة، أبرزها العاصمة هافانا، احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية، وتراجع الخدمات الأساسية، لا سيما الكهرباء، بالإضافة إلى غلاء أسعار المواد الأساسية، من غذاء ودواء، وحتى فقدانها من الأسواق. وإذا كانت هذه التظاهرات، ومسبباتها، هي من النتائج الحتمية للعقوبات الأميركية القاسية التي استحدثها أو أعاد فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على الجزيرة، ناسفاً الانفتاح التاريخي الذي أبداه سلفه باراك أوباما تجاه هذا البلد الكاريبي الجار للولايات المتحدة، والتي فاقمتها تداعيات وباء كورونا، إلا أنه لا يمكن إغفال عوامل عدة أخرى أدت إلى أن يطفح كيل الكوبيين، وساهمت في تأجيج حراك شعبي غير مسبوق في تاريخ الجزيرة منذ الثورة الكوبية، أو أقلّه منذ تظاهرات "المرحلة الخاصة" في العام 1994 (المعروفة باحتجاجات ماليكونازو)، حين واجه الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو، خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، تداعيات الأزمة الاقتصادية التي أصابت كوبا مع انهيار الاتحاد السوفييتي. وكانت قد سبقت تظاهرات الأحد حراكات متفرقة وتظاهرات خلال الأعوام الماضية، لا سيما في 2020، كان أبطالها الأساسيون فنانين ومثقفين وناشطين مدنيين، احتجاجاً على عنف الشرطة والقمع وغياب حرية الرأي والديمقراطية والسجن والملاحقات، إلا أنها لم تصل في العدد إلى حدّ ما شهدته تظاهرات أول من أمس. ولا يزال مبكراً الجزم أو الذهاب بعيداً في التنبؤ بمآلات هذه التظاهرات، إذا ما استمرت، وهو ما توقع النظام حصوله، لا سيما لجهة خطرها على الحزب الحاكم الذي تنحى عن قيادته راؤول كاسترو في إبريل/ نيسان الماضي.

حذّرت واشنطن هافانا من استخدام العنف ضد المتظاهرين

ففي مقابل "الجيل الثاني" من الثورة الكوبية، قد لا يكون بمقدور الرئيس ميغيل دياز كانيل، السير على خطى فيديل وشقيقه، حين عملا على قمع حركة المنشقين والمعارضين، ودفعهم إلى عبور المياه إلى ميامي الأميركية، والتي ساهمت أموال الكوبيين فيها بشكل غير مباشر، برفد الجزيرة بالدعم المالي خلال سنوات الحصار. وإذا كان دياز والطبقة الحاكمة قد رفعوا سريعاً الاتهامات الكلاسيكية للولايات المتحدة "والمافيا المعارضة" في أميركا، بالوقوف وراء الحراك، إلا أن أعينهم ستظل مسلّطة لوقت طويل على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تعد من أبرز محركات تظاهرات الأحد، بعدما ساهم الإنترنت في هذا البلد، اعتباراً من 2018، في نقل مطالب المجتمع المدني. وبغض النظر عن سجال ما إذا كانت التظاهرات عفوية أم لا، فإن قلق النظام الكوبي يبدو كبيراً، وهو ما يفسّر إسراعه إلى سلاح التعبئة لـ"النضال" من أجل "الدفاع عن الثورة"، عبر تحريك الشارع المضاد، في مقابل مسارعة روسيا والولايات المتحدة إلى توجيه الرسائل بشأن تظاهرات كوبا.

وفي الواقع، كان من الممكن أن تتجه الأنظار إلى كوبا، في أي وقت سابق منذ خلافة راؤول لأخيه، في 2008، لرصد نبض الكوبيين في الألفية الثالثة، والجيل الثاني من "الثورة الكوبية"، وإمكانية أن تتبدل ملامح الجزيرة، التي ظلّ نظامها الشيوعي صامداً لعقود بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. لكن، وعلى الرغم من أن الجزيرة الأكثر كثافة سكانية في منطقة الكاريبي، والتي رفعت طويلاً شعار الصمود في وجه الحصار الأميركي، شهدت منذ ذلك الحين تحركات شعبية عدة، رافعة مروحة واسعة من المطالب، من حرية التعبير إلى الاعتراض على العنف والقمع، وصولاً إلى المطالب الاقتصادية، إلا أن أياً منها لم يشكل تهديداً للنظام الحاكم، كما اليوم، قياساً بما رصدته وسائل الإعلام واللقطات المصورة التي بثت على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل حجب الإنترنت حتى مساء الأحد، وتوجه دياز كانيل شخصياً لمقابلة السكّان والاستماع لمطالبهم. وشارك في تظاهرات الأحد أيضاً فنانون ورجال دين مسيحيون أيضاً. ورفع المتظاهرون شعارات "الحرية" و"كفى" و"لنتحد" و"لتسقط الديكتاتورية"، معربين لوكالات أنباء عدة عن مللهم من طوابير الانتظار الطويلة لابتياع حاجياتهم، ومن انقطاع الكهرباء الذي بلغ مستويات قياسية.
وأفاد موقع "إينفنتاريو" للبيانات الصحافية، أمس الإثنين، بأن حوالي 40 تظاهرة سجلت أول من أمس، في مناطق مختلفة من كوبا، وبثّت غالبيتها مباشرة عبر وسائل التواصل، قبل قطع السلطات خدمة الجيل الثالث من الإنترنت في جزء كبير من البلاد، قبل إعادة العمل بها مساء. وردّدت الحشود التي تجمعت أمام مقار الحزب الشيوعي: "كوبا ليست لكمّ"، و"نحن جياع"، "حرية"، و"لتسقط الديكتاتورية". وشهدت بلدة سان أنطونيو دي لوس بانيوس أولى التظاهرات، قبل أن تمتد سريعاً إلى مدن عدة، وصولاً إلى هافانا، حيث وقعت مواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية التي استخدمت الغاز المسيل للدموع وأطلقت النار في الهواء، وضربت المحتجين بهراوات بلاستيكية، بحسب ما أفادت وكالات أنباء أكدت حصول توقيفات، مع نشر الأمن تعزيزات في المدن. من جهتهم، عمد متظاهرون غاضبون إلى رشق قوات الأمن بالحجارة، وإلى قلب سيارات عدة للشرطة وإلحاق الضرر بها، فيما بثت وسائل التواصل لقطات لمواطنين يصفقون للمتظاهرين من على شرفات منازلهم. وذكرت وكالة "أسوشييتد برس" أن أحد المتظاهرين في العاصمة عمد إلى رفع العلم الأميركي، قبل أن يسحبه منه متظاهرون آخرون. وقال متظاهر للوكالة: "طفح كيلنا من طوابير الانتظار، من انقطاع الكهرباء ونقص المواد الأساسية. لهذا السبب أنا هنا"، رافضاً الكشف عن اسمه خشية اعتقاله. وبلغت التظاهرات، بحسب الوكالة، آلافاً عدة من المشاركين في هافانا، مع وصولها إلى جادة غاليانو في العاصمة. وأحصت اقتياد الشرطة لـ20 متظاهراً في سياراتها، بعد تمكنها من فضّ التظاهرات في العاصمة، مضيفة أن حوالي 300 كوبي مؤيدين للحكومة وصلوا إلى وسط هافانا، رافعين الأعلام الوطنية، ومطلقين شعارات مؤيدة لفيدل وللثورة الكوبية. وأكدت الحكومة عزمها على الدفاع عن الثورة "بأي ثمن" في مواجهة التظاهرات. وقال نائب وزير الخارجية الكوبي خيراردو بينيالفير، عارضاً مقطعاً مصوراً لتظاهرة مؤيدي النظام: "سندافع عن الثورة الكوبية بأي ثمن".

دعا الرئيس الكوبي الشعب للنظال والدفاع عن الثورة

وفي حين أقر الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل بشعور بعض الكوبيين بـ"عدم رضا" بسبب تردي الوضع المعيشي، اتهم أيضاً من سان أنطونيو دي لوس بانيوس (تبعد نحو 30 كيلومتراً عن هافانا)، الولايات المتحدة بالوقوف وراء ما يحدث. وقال دياز إن "ثمة مجموعة من الأشخاص من المناهضين للثورة، من المرتزقة الذين يتلقون المال من الحكومة الأميركية بطريقة غير مباشرة عبر وكالات للحكومة الأميركية، لتنظيم تظاهرات كهذه". وأضاف: "وكأن الوباء لم يشمل كل دول العالم، خلقت المافيا الأميركية الكوبية، التي تدفع المال جيداً للمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي ويوتيوب، هذه الحملة الشاملة، ودعت للتظاهر في كل أنحاء البلاد". وبناء عليه، أصدر الرئيس الكوبي "أمراً بالنضال" إلى مؤيدي الثورة بقوله "ندعو جميع ثوّار البلاد، جميع الشيوعيين، للخروج إلى الشوارع حيث ستحدث هذه الاستفزازات الآن وفي الأيام القليلة المقبلة، وإلى مواجهتها بطريقة حازمة وشجاعة".
من جهتها، أكدت واشنطن أنها تتابع تظاهرات كوبا عن كثب، محذرة السلطات الكوبية من استخدام العنف ضد المتظاهرين. وقال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إن "الولايات المتحدة تدعم حرية التعبير والتجمع في كل أنحاء كوبا وستدين بشدة أي عنف أو استهداف للمتظاهرين السلميين الذين يمارسون حقوقهم". وكتبت جولي تشانغ، السكرتيرة المساعدة بالوكالة لشؤون الأميركيتين في وزارة الخارجية الأميركية على "تويتر"، أن "التظاهرات السلمية تتسع في كوبا، فيما يمارس الشعب الكوبي حقّه في التجمع السلمي للتعبير عن قلقه بشأن ارتفاع عدد الإصابات والوفيات بكورونا ونقص الأدوية. نشيد بالجهود العديدة للكوبيين (في الولايات المتحدة) لجمع التبرعات لمساعدة جيرانهم المحتاجين". وحذّر السيناتور الأميركي بوب مينينديس من "وجوب أن يدرك النظام الديكتاتوري (في إشارة إلى النظام الشيوعي في كوبا) أننا لن نسمح باستخدام العنف لإسكات تطلعات الشعب الكوبي". بدوره، غرّد الأمين العام لمنظمة الدول الأميركية لويس ألماغرو على "تويتر": "نؤيد مطلب المجتمع الكوبي المشروع للحصول على أدوية وأغذية وحريات أساسية"، مندداً بـ"النظام الديكتاتوري الكوبي لأنه دعا مدنيين للجوء إلى قمع ومواجهة الذين يمارسون حقهم بالتظاهر".
وردت كوبا سريعاً على التصريحات الأميركية. وقال المدير العام في الحكومة للشؤون الأميركية كارلوس دي كوسيو إن "الخارجية الأميركية وموظفيها المتورطين حتى رقابهم في تأجيج عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في كوبا، عليهم أن يتجنبوا إبداء القلق المنافق حول الوضع الذين ظلّوا يراهنون عليه. كوبا دولة سلمية، وستبقى كذلك، خلافاً للولايات المتحدة".

من جهتها، حذّرت روسيا، أمس الإثنين، من أي "تدخل خارجي" في كوبا. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا: "نعتبر أنه من غير المقبول أن يكون هناك تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة أو أي أعمال مخربة من شأنها تشجيع زعزعة الوضع في الجزيرة". وأضافت: "نراقب عن كثب تطورات الوضع في كوبا وحولها. إننا على قناعة بأن السلطات الكوبية ستتخذ جميع التدابير الضرورية لاستعادة النظام العام".

وقعت مواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية التي استخدمت الغاز المسيل للدموع وأطلقت النار في الهواء، وضربت المحتجين

وإذا كانت الجزيرة قد عانت من أسوأ وضع اقتصادي خلال ثورتها، في السنوات الأولى التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد أعادتها عقوبات ترامب إلى تلك المرحلة، بعدما تفاقمت الأزمة في الجزيرة، حين اتخذ ترامب أكثر من 200 إجراء لتشديد الحصار عليها. وكان الكوبيون يأملون بانفراجة إثر الانفتاح مع الولايات المتحدة بين عامي 2014 و2016 في عهد أوباما، لا سيما حين شهدت كوبا في آخر عام من عهد أوباما وبداية 2017، تعافياً اقتصادياً ملحوظاً. وترافقت عقوبات ترامب مع تشديد الحصار الأميركي أيضاً لخنق النظام الفنزويلي بقيادة نيكولاس مادورو، ما أفقد هافانا شريكاً اقتصادياً ورافداً أساسياً لها بالنفط، واضطرها لشراء السلع الأساسية بأسعار السوق العالمية. وبينما فشلت أو شهدت محاولة النظام الكوبي، التي كان قد وعد بها، للبرلة الاقتصاد جزئياً أو إصلاحه، تباطؤاً ومحدودية، لا سيما بسبب العقوبات الأميركية، وجهت أزمة كورونا الضربة القاضية لاقتصاد هذا البلد، خصوصاً بسبب فقدانه عائدات السياحة، المحرك الأساسي لاقتصاد الجزيرة المحاصرة، والتي كان يعول عليها النظام لمواجهة العقوبات. وأثّر "كوفيد 19" بشكل مباشر على الاقتصاد الكوبي، وقطاعات الصحة والتربية، وجميع القطاعات المنتجة بشكل عام، فيما لم تنفع زيادة الرواتب للعاملين في القطاع العام، والتي امتصها الغلاء.
وتعتبر ضخامة التظاهرات عنصراً جديداً في حياة الجزيرة، إذ لم يسبق للمنشقين والمعارضين أن تمكنوا من هذه القدرة على الحشد، ما يبرر فهم شعور النظام بالخطر. وكان النظام قد عمل منذ بداية الألفية الثالثة، على محاولة احتواء المعارضة "الثقافية والاجتماعية"، للإيحاء بفصلها عن أي معارضة سياسية، لكنه ظلّ رافضاً لأي مبادرات من القاعدة، ممارساً مختلف أنواع القمع. وتدور تساؤلات اليوم حول الجهة التي بإمكانها دعم النظام في الجزيرة في وجه تظاهرات تذهب المؤشرات إلى إمكانية تحولها إلى أزمة حكم، فيما يواجه الحلفاء، من روسيا وفنزويلا وإيران، عقوبات قاسية أيضاً، ضمن سياسة الدومينو الأميركية لتفكيك منظومة "الأعداء".
(العربي الجديد)