أميركا... القوانين ضدّ مقاطعة إسرائيل لحماية القضايا الأكثر رجعية

أميركا... القوانين ضدّ مقاطعة إسرائيل لحماية القضايا الأكثر رجعية

04 يوليو 2023
تحرك تضامني مع الفلسطينيين في نيويورك، إبريل 2018 (Getty)
+ الخط -

في الولايات المتحدة كما في الدول الأوروبية، تشهد القوانين المناهضة لحركة مقاطعة إسرائيل "بي دي اس" (المقاطعة، منع الاستثمار وفرض العقوبات) تضاعفاً كبيراً، لتحمي إسرائيل من الحركات المواطنية المطالبة بإجراءات ملموسة ضد احتلال فلسطين. يصوّر فيلم وثائقي حديث كيفية توسّع الحركة المعادية لحركة "بي دي اس" والتي تمنع كل أشكال المقاطعة، سواء كانت ضد صناعات التسليح أو الصناعات الملوثة للبيئة وصولاً إلى المصحات الرافضة لعمليات الإجهاض.

وثائقي قيّم وغني بالمعلومات والمعطيات الهامة، يمكن مشاهدته على العديد من منصات البث. عنوانه "بويكوت" boycott، أي "مقاطعة"، وهو من إخراج المختصة في الأفلام الوثائقية جوليا باشا، وهي أميركية من أصول برازيلية.

قُدّم هذا الوثائقي لأول مرة في مهرجان "دوك نيو يورك سيتي" (Doc NYC) في أواخر 2021، ويستعرض تاريخ وتداعيات القوانين المعتمدة في الولايات المتحدة التي توصّلت بطريقة أو بأخرى إلى معاقبة (خصوصاً على المستوى الاقتصادي) الدعوة أو دعم الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل التي تتبنّاها حركة "بي دي اس" أو حركة مقاطعة إسرائيل المؤسسة سنة 2005، في انتظار إمكانية تجريمها، وذلك من خلال تبنّي جملة من القوانين على مستوى الولايات.

الدفاع عن حرية التعبير

ذلك ما واجهه آلان ليفريت، مدير تحرير جريدة "أركنساس تايمز". فإثر مصادقة مجلس شيوخ هذه الولاية بالإجماع على قانون يمنع الدعوة لمقاطعة إسرائيل، وجّه حاكم ولاية أركنساس آسا هاتشينسون أمراً قضائياً لمدير التحرير مطالباً إياه، استناداً إلى صفته، بتوقيع التزام يقضي برفض كل أشكال التعبير الخاصة بـ"بي دي اس" في صفحات جريدته.

كما تم تهديده بأنه في حال رفضه لهذا الأمر، فلن تحظى الجريدة مجدّداً بأي إشهار من قِبل جميع الإدارات والمؤسسات العمومية بولاية أركنساس. وهي باختصار عقوبة مالية بامتياز ردّ عليها ليفريت بمقاضاة الحاكم. يعبّر بذلك ليفريت في الفيلم عن موقف غالبية المدّعين الذين يطعنون بالأوامر الواردة ضمن القوانين المناهضة لـ"بي دي اس": "نحن لا نتجه إلى القضاء لدعم أو رفض مقاطعة إسرائيل، بل للدفاع عن حرية التعبير عن الرأي".

وجّه حاكم أركنساس أمراً قضائياً لمدير تحرير جريدة "أركنساس تايمز"، مطالباً إياه بتوقيع التزام يقضي برفض كل أشكال التعبير الخاصة بـ"بي دي اس" في جريدته

في مرافعته، يستشهد محامي ليفريت بالتعديل الأول للدستور الأميركي الذي يحمي حرية التعبير، كما يذكر قراراً شهيراً للمحكمة العليا يعود إلى سنة 1982 وينصّ على أن "مقاطعة المستهلكين هي تعبير سياسي محمي على أعلى مستويات التسلسل الهرمي" للقانون الأميركي. وعلى الرغم من أن القاضي المحلي لم ير الأمور على النحو نفسه، معتبراً أن التعديل الأول للدستور لا يحمي فعل المقاطعة، فإن ليفريت كسب القضية في الاستئناف، وقد عدّ في صفوف داعميه حاخام كنيس "بني يسرائيل" في ليتل روك، عاصمة أركنساس.

في مايو/ أيار 2017 بولاية تكساس، تبنّى الحاكم (من الحزب الجمهوري) غريغ أبوت قانوناً ضدّ "بي دي اس"، وهو الآن مُدرج في القسم 2270.001 من القانون المدني لولاية تكساس. وفي إعلانه عن القانون، قال أبوت: "مناهضة السياسة الإسرائيلية هي تماماً كمناهضة سياسة تكساس. نقطة".

وفي أوستن، عاصمة تكساس وأكبر مدنها الجامعية، تلقّت بهية عماوي، وهي شابة من أصول فلسطينية تعمل أخصائية في تقويم النطق لدى الأطفال، أمراً من قبل مشغّلها (مؤسسة عمومية) بتوقيع التزام بعدم مناصرة أي دعوة لمقاطعة إسرائيل "لا بشكل آني ولا حتى على مدى فترة تشغيلها". رفضت عماوي التوقيع وواصلت عملها من دون الحصول على أجر إلى حدود انتهاء الدعوى القضائية التي رفعتها لدى محكمة الولاية، وكسبتها بعد ثلاث سنوات.

في ذلك الصدد، كتب القاضي روبرت بيتمان: "تهدد القوانين المناهضة لـ(بي دي اس) بتوجيه الرأي العام والتلاعب به، من خلال انتهاج التعسّف بدلاً من الإقناع. وهو ما ينفيه التعديل الأول للدستور". حصلت عماوي في النهاية على كامل أجرها المتأخر، والأهم من ذلك، وقّعت عقداً جديداً لا يتضمّن بند الإكراه على عدم مقاطعة إسرائيل.

مندهشون لما رأوه في الضفة الغربية

في ولاية أريزونا، تم اعتماد قانون ضدّ "بي دي اس" من دون الخضوع لأي مناقشة بالإجماع من قبل الكونغرس. في أحد الأيام، اكتشف ميك جوردال، وهو من سكان مدينة سيدونا بولاية أريزونا، تعديلاً طفيفاً بالعقد الذي يجدد من خلاله وظيفته. تحت صياغة عادية بعنوان "التحقق من الوظيفة"، أضيفت جملة تقضي بالالتزام بعدم الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل. جوردال هو رجل قانون. وهو ليس يهودياً، لكن زوجته كذلك. كانا معاً في عطلة في إسرائيل وعادا مندهشين لما رأوه في الضفة الغربية. وقد صرّح في الفيلم: "بعد ما شاهدته هناك، لم يعد بإمكاني قبول أي منع للمقاطعة".

واصل بدوره العمل من دون تلقي أجر إلى حدود الإعلان عن قرار المحكمة التي رفع فيها الدعوى القضائية. كان ابنه متأكداً أنه سيخسر القضية: "إنّ اللوبي المناصر لإسرائيل أقوى بكثير من الجمعية الوطنية للأسلحة النارية (لوبي الاتجار بالأسلحة)". مع ذلك فقد كسب جوردال القضية.

في ولاية أريزونا، تم اعتماد قانون ضدّ "بي دي اس" من دون الخضوع لأي مناقشة بالإجماع من قبل الكونغرس

يركز الفيلم أساساً على هذه الحالات الثلاث التي ترمز إلى المعارك القضائية والسياسية التي تم خوضها في الولايات المتحدة منذ سنة 2015، وهي السنة نفسها التي أُصدر فيها أول "قانون مناهض" لـ"بي دي اس" بولاية إلينوي. كما كان من الممكن التوقف عند حالات أخرى كانت قد تطرقت إليها الصحافة الأميركية هنا وهناك.

كذلك قصة ستيفن فيلدمان، أخصائي الأمراض الجلدية من كارولينا الشمالية، الذي تلقى دعوة من قبل إحدى الجامعات بأركنساس في بداية هذا العام لتقديم محاضرة. أتى فيلدمان لتلقي أجره (500 دولار)، ليجد نفسه مطالباً بالتوقيع على التزام برفض أي شكل من أشكال المقاطعة لإسرائيل، فرفض ذلك.

يمنح الفيلم أيضاً فضاء لشهادات الحقوقيين الذين اتخذت قضية الدفاع عن "بي دي اس" مكانة أكبر لديهم. ومن بينهم بريان هاوس، وهو محامٍ وعضو في الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، الذي يعتبر أقدم جمعية للدفاع عن الحقوق في الولايات المتحدة تأسست سنة 1920 ولعبت دوراً رئيسياً ضد التمييز العنصري المسلط على السود الأميركيين. وقد صرّح هاوس في "بويكوت": "سنكون أمام فضيحة كبرى إذا فهم الناس التداعيات الحقيقية لهذه القوانين".

قوانين في خدمة صناعات التسليح

تكمن الفضيحة في عواقب هذه القوانين التي لا تتوقف عند تلميع الصورة العامة لإسرائيل بشكل تعسفي، بل تتعلق بحماية أبشع المصالح الاقتصادية، وأكثرها خطورة. من خلال هذا الوثائقي، تطرق هاوس بالخصوص إلى وجود لوبي يسمى "أليك" (المجلس الأميركي للحوار التشريعي)، مسجّل بالكونغرس (شرط وجوبيّ للحصول على صبغة لوبي)، ويلعب دوراً فعالاً في نشر "القوانين المناهضة لبي دي اس".

تحت هذا المسمى البسيط، يضمّ "أليك" ربع أعضاء الكونغرس والنواب حسب تصريح بيل مايرلينغ، وهو أحد مسيّريه. لكن ما لم يُدلِ به هذا الأخير، أنّ الغالبية العظمى من هؤلاء الأعضاء هم من بين المحافظين في المجلس. هدفهم المعلن هو فرض قراءة للدستور الأميركي تكون أكثر قرباً من اللاديمقراطية على المستوى السياسي، ومن التحرر والانفتاح في المجال الاقتصادي.

يلعب لوبي "أليك" دوراً فعالاً في نشر "القوانين المناهضة لبي دي اس"

تأسس سنة 1973 بشعار "حكومة محدودة، أسواق حرة ونظام فيدرالي"، اكتشف مجلس "أليك" منذ سنوات الفوائد المحتملة التي تتيحها القوانين "المناهضة لـ بي دي اس" والتي تساعده في المضي نحو تحقيق أهدافه المتمثلة أساساً في: إضعاف دور الدولة الفيدرالية، تحرير الأسواق المالية على قدر الإمكان، وتقوية الولايات على حساب واشنطن.

سرعان ما أدرك أعضاء هذا اللوبي مع الشركات الممولة له أهمية "استفحال" هذه القوانين وانتشارها في بقية المجالات. يكتفي هؤلاء مثلاً بتعويض كلمة "دولة إسرائيل" بـ"مبيعات الأسلحة" في نصوصهم التي لا تتغير بدورها من ولاية أميركية إلى أخرى، حتى يتم كل شيء. هذا المجلس الذي يتباهى بتمريره مائتي قانون وأوامر وتوجيهات في الولايات الأميركية الخمسين في السنة السابقة فقط، ذهب إلى تقديم "مشروع قانون لمناهضة المقاطعة" يهدف إلى منع مقاطعة كل أنواع المنتجات والأنشطة، من دون أن يتعلّق ذلك بإسرائيل أو فلسطين.

على هذا الأساس، كانت ولاية تكساس أول من مرّر ضمن ترسانتها القانونية لسنة 2021 قانوناً يعاقب كل دعوة لمقاطعة تجار الأسلحة. على خلفية ذلك، قدّم عضو اللوبي جايسون إسحاق مشروع قانون لدى مجلس نواب الولاية، يتضمن مقترحاً لتوسيع هذا القانون ليشمل منع مقاطعة صناعة المحروقات الأحفورية. ومن أجل الدفاع عن محتوى النصّ، صرّح محرّروه للعموم بأنه "يستند إلى التشريع المناهض لبي دي اس المدعوم من قبل مجلس أليك في كل ما يتعلّق بإسرائيل".

سرعان ما تطورت الأمور لتتبنى تكساس قانوناً يمنع الشركات والمؤسسات المتعاقدة مع الولاية من مقاطعة الأسلحة النارية، وقد تبعتها في ذلك أربع ولايات. كما شكّلت مشاريع قوانين مشابهة، محور نقاشات برلمانية لثلاث عشرة ولاية أخرى. في السياق، أطلقت عشر ولايات النقاش حول مشاريع قوانين تحمل المبادئ نفسها المضمّنة في "القوانين المناهضة لبي دي اس"، بغرض إسكات المطالبين بمقاطعة المؤسسات الصحية الرافضة لتقديم العلاج للنساء الراغبات في الإجهاض.

يعبّر المحامي بريان هاوس في هذا الصدد عن خوفه من المستقبل، إذ أصبح من الممكن منع المؤيدين لحركة "حياة السود مهمة" من نقد الانتهاكات البوليسية وكذلك أعضاء التنظيم الأسري من مقاطعة القوانين المجرّمة للإجهاض والجمعيات المدافعة عن البيئة من نقد الفاعلين الصناعيّين الأكثر تسبّباً بالتلوث.

"تراجعوا عن إقناع الرأي العام"

يبقى وقع هذه التطورات محدوداً وضعيفاً في الولايات المتحدة، حيث يقتصر تأثير حركة "بي دي اس" على الجامعات. من المؤكد أيضاً أن القوانين المناهضة لـ"بي دي اس" لقيت ترحيباً كبيراً لدى المنتخبين الجمهوريين والعديد من الديمقراطيين إلى درجة وصل فيها عدد الولايات الأميركية المتبنية لقوانين أو أوامر أو مناهج عمل مناهضة لـ"بي دي اس" إلى 35 حتى هذا اليوم.

على الرغم من ذلك، فإن مثل هذه القوانين لم تُستسغ بعد من قبل القضاة في الولايات المتحدة كما هو الشأن في أوروبا، حيث تنتهي غالبية الدعاوى المرفوعة لدى المحاكم لصالح "بي دي اس". من جهة أخرى، تساهم مضاعفة هذه القوانين في تشويه صورة إسرائيل وربطها بالنخبة السياسية الأكثر رجعية بالولايات المتحدة وغيرها من البلدان.

وصل عدد الولايات الأميركية المتبنية لقوانين أو أوامر أو مناهج عمل مناهضة لـ"بي دي اس" إلى 35 حتى اليوم

تحمل مخرجة الفيلم جوليا باشا وجهة نظر متفائلة، معتبرة أنّ المعركة التي يخوضها المناهضون لـ"بي دي اس" هي "محاولة لمنع تطوّر النقاش" في الولايات المتحدة حول المسألة الفلسطينية، وأن "اللجوء للحركة التشريعية [بمساعدات إسرائيلية]، لا يعني سوى تراجعهم عن محاولة إقناع الرأي العام بالحجج وقبولهم لفكرة أنهم بصدد خسارة النقاش". يذكّر بريان هوس، محامي الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، في هذا الوثائقي بأنّ الشعار الذي تبناه المدافعون الأميركيون عن حقوق السود الأفارقة في الولايات المتحدة في السنوات 1970 - 1980، كان "التمييز العنصري جريمة، الاحتجاج ليس كذلك".

ينشر بالتعاون مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar