تحت عنوان براق، يخرج ساسة "يمين الوسط" الأوروبي بخطاب قديم ـ جديد عن مواجهة "اليسار الإسلامي"، وهذه المرة من فرنسا، على لسان وزيرة التعليم فريدريك فيدال. تهمة "الراديكالية اليسارية الإسلامية" تمتد من كوبنهاغن الدنماركية، الغارقة في منافسة تطرف حزبي على تحييد مواطنيها المسلمين، إلى أنحاء القارة الأوروبية، وتحت عناوين مواجهة زائفة، ومقيتة النتائج، في إقصاء حس المواطنة لدى أجيال ولدت وكبرت في الضواحي، أو ما يسمى "غيتوهات".
استنباط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كغيره في أوروبا، في زمن وباء كورونا، مصطلحات مواجهة تقوم على اصطفاف هوياتي ـ ديني، هو وقوع غير محسوب في فخ التطرف القومي، وهروب من استحقاقات عقلانية لسياسات تمييز منهجي ومؤسساتي لعقود خلت. مصطلح "مكافحة الانفصالية الإسلامية" لا يجيب على أولويات التحديات في القارة، بل يخلق "مكارثية أوروبية"، يريدها الفاشيون "محاكم تفتيش"، ويبررونها باتهامات غوغائية بـ"الخيانة"، على نسق جماعات العنف العنصري الأميركية في "كو كلوكس كلان" قبل عقود.
وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، بمزايدته على "التجمّع الوطني" بزعامة مارين لوبان، باعتبارها تبدي "ليونة" حيال الإسلام، يختزل خطر تكريس مصطلحات عن حتمية التصادم الثقافي ـ الحضاري، بمنهجية سطحية لمستشرقي التنظير الشعبوي، وبما لا يليق بدول المواطنة والعدالة والحرية.
إشاعة أجواء ترهيب، في الإعلام والسياسة والأكاديميا، بتهمة "اليسارية الإسلامية"، هو ما تعيشه دول الشمال وإسكندينافيا منذ 2015، لإجبار تيار سياسي عريض على تبنّي نظرية المؤامرة على "القوميات البيضاء". وفي أحد تجلياته لا يختلف عن حملات الصهيونية الغربية باعتبار كل انتقاد للاحتلال الإسرائيلي "معاداة للسامية"، حتى لو شارك يهود معادون للصهيونية في "حركة المقاطعة".
ما يشوّه سمعة وصورة فرنسا، أو إيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا والدنمارك، هي الممارسات والقوانين المتحيزة، القائمة على منافسة ديماغوجية للتطرف الشعبوي، وليس "اليسار الإسلامي" المحذر من ضرب أسس العدالة والمساواة، في ارتداد تيار الوسط كسباً لتعاطف الجماهير. وبقدر ما يدرك ساسة معسكر مخضرم، والمستوى الأمني، مخاطر شرعنة اليمينية المتطرفة، فإن انتهازية مغموري السياسة، باستهداف الناس على أساس المعتقد والخلفية الإثنية، تخلق منزلقات ليست مبشرة، وتفسح لتيار متطرف بكسب مزيد من التعاطف بين الأجيال المسلمة.
صحيح أن أوروبا تبدي امتعاضاً ومعارضة لتيار رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بخطابه الفج في التطرف القومي، ورفع يافطة المعسكر اليميني المتشدد عن "الأسرة والقومية والدين" واعتبار المسلمين عدواً، متهمة إياه وتياره الأوروبي الشرقي وبعضه حليف لروسيا، بتقويض "أسس وقيم" تكتلها. لكنها في المقابل تغمض عينها الأخرى على "تطرف أنيق" في باريس، وفي أعرق ديمقراطياتها الإسكندينافية.
وإذا كانت الاستخبارات الألمانية مثلاً، التي شاركت كغيرها في فترة الحرب الباردة في جهود الحد من نفوذ اليسار الثوري الأوروبي، أو من وصوله إلى السلطة، تبدي تخوفها من نازية الخطاب في صفوف حزب "البديل لأجل ألمانيا" المتطرف وتضعه تحت مراقبتها، فلعل باريس، وغيرها، تحتاج لجردة حساب واقعية عن الأسباب والمآلات في سياسة استعداء حتى من يصنفون "يساراً إسلامياً" (بحال القبول أصلاً بهذا التصنيف). وهو تيار يفترض أنه يشجع على الاندماج والانخراط السياسي والثقافي في المجتمعات، ولا لشيء إلا لأنه أيضاً تيار يرفض غوغائية إقصاء ملايين المواطنين، وجر الدول إلى حيث أخذها التطرف القومي بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية.