عبد الرزاق غورنه .. الإنساني العابر للهويات

عبد الرزاق غورنه .. الإنساني العابر للهويات

25 أكتوبر 2021

عبد الرزاق غورنه في لندن بعد إعلان فوزه بجائزة نوبل للآداب (8/10/2021/فرانس برس)

+ الخط -

حين فاز الكاتب عبد الرزاق غورنه (أو قرنح) بجائزة نوبل للآداب قبل أيام، خرجت أصوات كثيرة تتحدّث عن نسبه وأصوله العربية، وتحصرها عادةً في اليمن، بسبب انتمائه الحضرمي أباً وأماً عن جد. الأمر صحيحٌ من حيث العرق، لكن الأمر، من حيث الثقافة واللغة التي يكتب بها، في غاية البعد. وحين نتحدّث عن كاتبٍ، فنحن نتحدّث عن لغته، وليس عن عرقه، وإلا صار تفكيرنا ما قبل ثقافي. صحيحٌ أنه من أصول حضرمية، لكن بأي لغة يفكر ويكتب، خصوصاً أننا نتعامل مع كاتبٍ وليس مع تاجر حرير. اللغة التي يفكّر بها الكاتب ويبدع هي أحد أسس هويته الثقافية، طبعاً مع انفتاح هذه الهوية على أنهارٍ أخرى تؤدّي، بالضرورة في النهاية، إلى المصبّ الإنساني الكبير، خصوصاً بالنسبة لعبد الرزاق قرنح الذي يمكن اعتبار اختيار أكاديمية نوبل له فائزاً بمثابة انحياز جميل من الجائزة إلى الجانب الإنساني. ويعمّق ذلك أن قرنح هو كذلك أستاذ للنقد الثقافي في جامعة بريطانية، وهذا المساق النقدي يُعنى بصورة أساسية بالهامش. والغريب أن منشأه الأول بريطانيا، وتمت فيه مناقشة ما سميت آداب المستعمرات. هذا النقد، وفي إطار ما سماها إدوارد سعيد هجرة النظريات، وجد تطوّره على يدي سعيد الذي وضع الإطار النظري لهذا النوع من النقد الذي يُعنى بالهامش وإبداع ما بعد الكولونيالة، من دون أن ننسى إضافات مثقفين أكاديميين آخرين من أصول آسيوية يعيشون في أميركا، مثل هومي بابا وغاياتري سبيفاك.
وفي عُمان خرجت أصواتٌ تتحدّث عن انتماء عبد الرزاق غورنه العُماني، فزنجبار التي ولد ونشأ فيها كانت تحت الحكم العُماني، أي أنه كان يحمل جنسيتها. وقد طالب كاتب عُماني بتنظيم مهرجان عُماني عالمي للأدب، يستضاف فيه غورنه، وهذه دعوة ثقافية جميلة، ليس فيها أي نزوع عرقي، إنما ثقافي. صديق آخر بارك مباشرة للعُمانيين والعرب فوز عبد الرزاق قرنح بجائزة نوبل لآداب، بوصفه ثاني عربي بعد نجيب محفوظ يحرزها. ينطلق هذا النزوع، في أصله، من باب الفرح والاحتفاء بكاتبٍ لديه تقاطعات عربية، سواء من حيث الأصل الحضرمي، أو من حيث المنشأ الزنجباري العُماني، فضلاً عما يجمعه معنا من ثقافة إسلامية. ولا نستبعد كذلك أن رواياته سوف تدور حول المحيط المهمش الذي عاش فيه، حين نعلم أن الكاتب ابن طفولته. ستجد الآن رواياته تدفقاً في الترجمة، فثمة مترجمون يعكفون على نقل أعماله إلى العربية، حينها سنعلم البعد العربي فيها، ولا أظنه غائباً، إذا اعتبرنا أنّ زنجبار التي نشأ فيها وغادرها كرهاً من الأماكن المتميزة بخليط الثقافات بين عربية وأفريقية وهندية.
لكن في البحث عما هو عربي في عقل قرنح أكثر ما يمكن اعتباره عربياً ليس العرق أو أصول الوالدين، أو حتى تفاصيل رواياته، إنما تضامنه مع القضية الفلسطينية، فإذا كان ثمّة ما هو عربي واضح لدينا في الكاتب الشهير فهو التضامن الذي عبّر عنه الكاتب العالمي مع قضيتنا الأساس، وتفهمه العميق حقوق الشعب الفلسطيني ومعاناته المريرة مع المحتل الصهيوني العنصري. وهو أمر يجعل أدبه ذا قيمة مضاعفة، وكذلك يضفي مصداقية حتى على درسه الأكاديمي المعني بقضايا الأمم المهمّشة وشعوبها، والبحث عن حلول لمشكلاتها المصيرية.
أنا سعيد طبعاً بفوز الكاتب الأفريقي عبد الرزاق غورنه بنوبل العالمية للأدب. أفريقي مسلم من أصول يمنية، من العالم الثالث، بل مناضل بـ"الدرس" في هذا السياق، حين نعلم أنه أستاذ جامعي لمساق النقد الثقافي وآداب مناهضة الاستعمار في جامعة ببريطانيا. باختصار هو مناضل عظيم، لا يمكن إلا أن نحترمه، وفوق ذلك هو ناجٍ من مذبحةٍ حدثت قبل سفره بأربع سنوات. سافر صغيراً وتفوّق في جامعات الغرب .
تفاصيل أخرى تعمّق هذا التنوع في ثقافة غورنه وهويته المركبة، حين نضيف أمراً آخر في سياق هذه المتاهة الهوياتية الجميلة، أنه حين ولد لم يكن قد نشأ بلده الذي نسبته إليه جائزة نوبل؛ تنزانيا. إذاً هو رجل ولد في عام 1948 قبل بلاده! فتنزانيا انبثقت بعد ولادته بـ16 عاماً (إثر اتحاد تنجانيقا وزنجبار)، بعد مذبحة رهيبة راح ضحيتها آلاف العُمانيين والعرب. إذاً، هو كذلك ليس يمنياً وليس عُمانياً، وربما ليس بريطانياً، وليس أيضاً تنزانياً، ربما فقط هو عبد الرزاق غورنه (أو قرنح) جميل الروح والإنساني، العابر للهويات الذي لم نقرأه بالعربية بعد.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي