الفلسطيني ونموذج جنوب أفريقيا

الفلسطيني ونموذج جنوب أفريقيا

07 مايو 2021
+ الخط -

كان الأمل أن يَصرّ الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، على المضي في إجراء الانتخابات التشريعية، مع إبداع حل ما لضمان مشاركة المقدسيين فيها، ترشيحاً واقتراعاً ودعاية، ومن ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية، أي تنظيم الانتخابات الرئاسية. وكان الأمل أن تُجرى الانتخابات الرئاسية في موعدها، وباقتراع نزيه وشفاف، قد يتنافس فيه الرئيس أبو مازن مع القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي. غير أن الرئيس عباس غيّر وجهة الريح نحو ما تشتهي سفنه، وأحال الانتحابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني إلى "علم الغيب".

وعلى الرغم مما شكله الإعلان عن ترشّح مروان البرغوثي للإنتخابات الرئاسية من مخاوف بعضهم على تفكك حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، إلا أن جمهوراً فلسطينياً عريضاً رأى في الخطوة الرمزية بارقة أمل لإعادة الحياة إلى النضال الفلسطيني، وتجديد حضور الكفاح الفلسطيني على الساحة العالمية، عبر صورة الرئيس المنتخب والأسير، فيما يشبه نموذج الرئيس الجنوب أفريقي، نيلسون مانديلا، مع أن الأخير لم يكن رئيساً عندما كان معتقلاً، وإنما بعد خروجه من السجن في 11 فبراير/ شباط 1990، ثم انتخابه رئيسا لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ثم فوزه في أول انتخابات متعدّدة الأعراق عام 1994، وقاد فيها حزب المؤتمر إلى الفوز، ليصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا.

تُحيل المقولة الشهيرة للزعيم الراحل مانديلا: "نحن نعلم جيداً أن حريتنا ناقصة من دون حرية الفلسطينيين" إلى الخيط الرابط بين نضال الشعبين، الفلسطيني والجنوب أفريقي، للخلاص من نظامين عنصريين. وتنامت خلال السنوات الأخيرة الدعوات في الأوساط الفلسطينية إلى تبنّي النموذج الجنوب أفريقي في الصراع مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، والاقتداء بتجربة المقاومة السلمية للمؤتمر الوطني الأفريقي، وهو النموذج الذي يتبنّاه الرئيس الفلسطيني، وقيادات فلسطينية أخرى تدعو إلى استراتيجية نضالية سلمية، تفضح عنصرية إسرائيل، وتكشف للعالم وجه الكيان الصهيوني العنصري.

ومن المهم هنا تذكير القيادات الفلسطينية بأن تميز تجربة جنوب أفريقيا في التحرّر من نظام الفصل العنصري لا تقتصر على إبداع أساليب في المقاومة السلمية لإسقاط النظام السياسي العنصري مع عزله عالمياً، وإنما بتقديم نموذج استثنائي للقيادة التي تلتحم مع شعبها، وتكون في مقدمة الصف عند التضحية، وفي آخر الصف، عند قطف المكاسب والامتيازات. في صيف العام 2012 نشرت مجلة التايمز الأميركية تقريرا مميزا للكاتب ريتشارد ستينغل عنوانه "مانديلا: دروسه الثمانية في القيادة"، نقل الكاتب عن مانديلا هذه الدروس والقواعد الرئيسية التي لابد أن يعرفها القائد. أولها أن "الشجاعة ليست غياب الخوف، وإنما هي إلهام الآخرين باتباعها"، فالقائد يقود الجماهير ويشجّعهم على التحرّك نحو الأمام، ويكون لهم نموذجا ملهما في مواصلة الصمود وعدم الاستسلام للخوف. الثاني أن القائد "يقود من الأمام ولكن لا يدع القاعدة وراءه"، ما يعني ضرورة الاستناد إلى القاعدة لمواصلة التقدّم في النهاية. وفي الدرس الثالث، يوصي مانديلا القائد بـ"وضع أصدقائه بقربه، ووضع منافسيه أقرب"، لأن القائد الزعيم لا يهمّش الأصدقاء، ولا يشن حروبا شعواء على الخصوم ويزيد من عزلتهم ويشهّر بهم ويخونهم، وإنما يحتويهم. وآخر دروس مانديلا وأكثرها أهمية أن "الاستقالة هي قيادة أيضا"، وأن "القادة يتمكّنون من القيادة بقدر ما يختارون، وليس بقدر ما يفعلون".

انتصر نموذج جنوب أفريقيا لأن زعماء "المؤتمر الأفريقي" نجحوا في فضح نظام الفصل العنصري وعزله، والأهم أنهم نجحوا في تقديم نموذج قيادي أقنع شعبهم قبل العالم بقدرتهم على نقل جنوب أفريقيا إلى مرحلة أكثر ديمقراطية خالية من العنصرية والاستبداد والفساد. وفي المقابل، لن ينجح أي نموذج فلسطيني، طالما لم يُحدث تغييراً في المسار الراهن، بإجراء مراجعة شاملة للخيارات السياسية، واشتقاق استراتيجية نضالية تستند إلى قاعدة شعبية عريضة، وجبهة داخلية متماسكة، تمثلها مؤسساتٌ شرعيةٌ منتخبة، تتبنّى استراتيجية مُقاوِمة قادرة على استنهاض الكل الفلسطيني.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.