السودان اليوم ومأزق الكيانية الوطنية

السودان اليوم ومأزق الكيانية الوطنية

11 ابريل 2014

جلسة للبرلمان السوداني في أكتوبر 2013

+ الخط -

حين نتأمل، اليوم، ما جرى للسودانيين، بعد الحالة الثورية في أكتوبر/ تشرين الأول 1964 التي أَسقطت نظام الفريق إبراهيم عبود العسكري؛ سنجد أن غياب الرؤية المعرفية للكيانية الوطنية كان يعبر عن حضوره بالأحزاب العقائدية، والتي لم تتوفر في أَدبياتها، آنذاك، على تصورٍ معرفيٍّ دقيق ومنضبط لكيانيةٍ وطنيةٍ حديثةٍ قابلةٍ للاندراج في تصورٍ عام، وقادرةٍ على استقطاب الوعي الجمعي للسودانيين. ففيما كانت الأحزاب التقليدية تمارس "الوطنية" الزائفة، من خلال بنى عشائرية وطائفية ما قبل حداثية؛ كانت الحداثة المفترضة في الأحزاب العقائدية الوجه الآخر للأيديولوجيا. ذلك أن القاسم المشترك الخفي بين خطابي الأحزاب العقائدية والتقليدية جسّدته الأوتوقراطية التي عكست غياباً لمرجعية الوعي النقدي في خطاب تلك الأحزاب. أي أن تلك الأحزاب كانت تمارس حراكاً نسقياً مغلقاً، ظل، باستمرار، يتوهم مطابقةً افتراضيةً بين رؤيتها الحزبية ورؤيتها للوطنية، بحسبانها تأويلا مطابقاً لبرنامج الحزب.

والحال أن إخفاق ما عرف بثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964، ثم انتفاضة إبريل/ نيسان 1985، نتجت عنه، مرة أخرى، عودة عسكرية لليسار واليمين، بعد المساهمة في تلك الحالة الثورية، عبر العنف الانقلابي (اليسار في 1969 واليمين في 1989)، ليجسدا بذلك المفارقة الكبرى على غياب تلك الكيانية الوطنية المنضبطة بمفهوم المواطنة، ومعناه القائم على الحقوق. فـ" الكيانية الوطنية"، بما تعنيه من وجود لنظام إدراك وطنيٍّ عابرٍ للأحزاب، وعاكسٍ رؤيةً وطنيةً واعيةً بذاتها، عبر منهجٍ معرفيٍّ مؤسس لـ "السودانوية"، كان بإمكانها أَن تكون مخاضاً لحلول المشكلات المعيقة لاندماج السودانيين في هوية وطنية، عبر أفكارٍ وتشريعاتٍ، ومناهج لمختلف جوانب الحياة السودانية؛ بحثاً عن حلولٍ استراتيجيةٍ ضامنةٍ معادلات النسيج الوطني، الضامن، بدوره، السلام والوحدة والديمقراطية، والمنبثق من تجانسٍ ترعاه الدولة، ليكون انعكاساً للأمة في المواطن؛ تجانسٍ ينتجه نظامٌ تعليميٌّ موَّحد، يجعل من الهوية والمواطنة وجهين لعملة واحدة.
بالطبع، لا يمكننا نفي وجود صورةٍ ما لهذا الاتجاه، ولاسيما مع الإحساس المبكر والخام بالوطنية السودانية لدى جماعة اللواء الأبيض العام 1924، والجماعات الوطنية الأخرى التي واجهت الاستعمار البريطاني، ثم الجهود الوطنية الخجولة في بعض مناهج النظام التعليمي المبكر وكتاباته. 
كانت الوطنية في الذهنية العامة للسودانيين، والعرب، كما لو أنها معطى جاهز، لا يحتاج تأسيساً أو صيرورةً أو رؤيةً لهويتها الواضحة في علاقات المواطنين ووعيهم (هنا ربما كان الإسلام الموروث، وهويات ما قبل الحداثة: الطائفية، القبائلية، تعكس التباساً وتشويشاً في وضوح ذلك الوعي الوطني وتمثلاته)، أي أن ما غاب هو: ضرورة التفكير في الحاجة إلى إعادة إنتاج مفهوم الدول - الأمة، والذي كان موضوع الوطنية في الغرب، وقام عبر صيرورة دامية ومعقدة، انتهت باتفاقية وستفاليا (العام 1648) التي أَحلت الدول الوطنية محل الإمبراطوريات الدينية، والمواطنين في تشريعاتها العامة محل المؤمنين، والشعب محل الطوائف.


ومع أن التفكير في الكيانية الوطنية كان ضرورةً قصوى، فإن ذلك لم يحدث على النحو العميق الذي يستوعب معنى الوطنية، وينتج مفاعليها الموضوعية في واقع الدولة السودانية. وهو واقع اليوم أصبح مأزوماً ومنقسما، باتفاق الجميع. وغياب تلك الرؤية المتمثلة مفهوم الكيانية الوطنية هو سبب ذلك المأزق لواقع السودان اليوم، إذ إن الوصول إلى تلك الرؤية، هو ما عجزت عنه، تاريخيا، جميع الأحزاب السودانية.
غياب التركيز على تأويلٍ معرفيٍّ للفكر الوطني في خطاب الأحزاب الذي  ظلَّ  مرتكزاً على أيدلوجيا نظرية، يشوبها ميلٌ أُممي في ذلك الخطاب، ولاسيما في سنوات الحرب الباردة؛ جعل خطاب الإسلامويين طهورياً ومتعالياً عن الواقع، فيما جعل  خطاب الماركسيين منفعلاً بأطروحات الاستقطاب في الحرب الباردة وتنظيراتها، من دون أن يكون أيٌّ من الخطابين قادراً على الالتفات إلى إشكالات البنية الداخلية، والعميقة، للمجتمع السوداني، والتي كانت في حاجةٍ إلى استقطاب تناقضاتها، بالتفكير في هوية سودانوية، تعيد بناء السودان عبر تعميق معنى مفهوم الدولة -الأمة، أو الدولة الوطنية .
هذا ما أدركه غاندي مثلاً، وهو يعيد تأسيس كيانيةٍ وطنيةٍ واعيةٍ بالتحديات الداخلية للهند ما بعد الاستعمار، تم تطويرها بعد ذلك، من خلال الحكومات المتعاقبة. حدث ذلك في الهند، قبيل الحرب الباردة وبعدها، وفي قلب الاستقطاب الأيدلوجي بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي، لكنه لم يحدث في السودان، ولا في المنطقة العربية. ونخشى القول إن ما يحدث، اليوم، من تصفية للربيع العربي في مصر، مثلاً، ضرب من إعادة إنتاج تصفية ثورتي أكتوبر وإبريل السودانيتين في زمن مختلف، وبأدوات مختلفة.