حدود الشريعة

حدود الشريعة

18 ديسمبر 2014

كيف سندخل في النظام العالمي المالي؟ (Getty)

+ الخط -

الإسلاميون الجدد اخترعوا لنا قصة سعيهم إلى إقامة دولة إسلامية، وحين تسألهم ما هي هذه الدولة، يقولون لك الدولة التي تطبق الشريعة الإسلامية الثابتة من القرآن والسنة. ويتوسع بعضهم ليضيف حكم الصحابة، على الرغم من أنهم اقتتلوا فيما بينهم لخلافهم في هذا الشأن، ثم يزيدون عليهم التابعين، وأهل الحديث من إجماع وقياس وما شابه. وتسأل: لكن، ما هو النظام السياسي في هذه الدولة، هل هي حاكم مطلق: ملك، سلطان، خليفة بالوراثة، خليفة بالانتخاب، ولي فقيه، أو عالم دين مقدّس؟ هل نظامها ملكي مطلق أو دستوري، جمهوري رئاسي أم برلماني؟ هل لها دستور وقوانين مدنية وجزائية ومحاكم وانتخابات، وهل يتساوى أفرادها بالمواطنة أم يكونون درجات: عبيد وجَوَارٍ بأسفل السلم، يعلوهم بدرجة أهل الكتاب من غير المسلمين الذين تفرض عليهم الجزية، وليس لهم الحقوق نفسها التي للمسلمين، ثم تأتي المرأة الحرة في الدرجة الوسطى، ثم السادة الرجال في الأعلى. وهؤلاء الرجال الأحرار أنفسهم درجات: عائلة الحاكم، كالأمويين والعباسيين، وبقية خلفاء الوراثة مع الحاشية من وزراء وخَزَنة وحُجّاب، ثم التجار والأغنياء وخلفهم الحرفيون والزرّاع والباعة، وآخرهم الفقراء المهددون بالعبودية الفعلية؟ وما هي العلاقات الاقتصادية، ومن يتحكّم ببيت مال المسلمين: الحاكم المطلق، كما كان عبر تاريخ الخلافة الإسلامية المديد، أم هناك نظام يمنع التصرف الكيفي بمال الدولة؟ ولمن ستعطى الأموال المجباة؟ هل سنبحث عن المؤلفة قلوبهم بين من يستحقها، أم نفعل مثل عمر بن الخطاب، ونبطل آية صريحة، بسبب تغير الظرف والزمان والمكان؟ وهل سنوزع الأموال على الأقارب والمقرّبين، أم سنستخدمها في السعي إلى إقامة الدولة الحديثة القوية والمتقدمة علمياً على الأقل؟ وكيف سندخل في النظام العالمي المالي؟ يقولون لك: تطبيق الشريعة كما كانت في عهد الرسول، بسنّته وبهدي كتاب الله. وتقول لهم: حسناً، هل ستعلن هذه الدولة الجهاد، وتبدأ بغزو الدول الكافرة لتهديهم إلى الإسلام، أو تقتلهم، أو تسبيهم، وإذا كانوا من أهل الكتاب تأخذ منهم الجزية صاغرين؟ يقولون: ليس بالضبط كما تقولون، فهذا له ضوابط شرعية ويعلنه الحاكم. وحين نقول: لم نفهم تماماً. أجيبونا، جزاكم الله خيراً: هل سيكون في هذه الدولة جوارٍ وعبيد، وقطع يد السارق، وحَدّ الحرابة بقطع الأيدي والأرجل من خلاف والرجم وووو ... يقولون: نعم، ولكن لها شروط. وحين تجابههم بفشل كل التجارب الحديثة والقديمة التي اعتمدت ما يقولون، وما نتج عن ذلك من كوارث، يقولون كل ذاك لم يكن الإسلام الصحيح ... وهكذا يمضون بالتهويم بالعموميات ... إلى أن جاءتهم داعش، فأحرجتهم أيما إحراج ...

لنأخذ حادثة الرجم التي أثارت نقاشات حادة بين أوساط ما يُعرف بالإسلاميين الوسطيين، فهم، ماداموا يؤمنون بإمكانية نسخ القرآن بالحديث باعتبار الحديث وحياً من الله أيضاً، حسب جمهور أهل الحديث، لا يستطيعون أن ينكروا حد الرجم للزاني والزانية "أو الشيخ والشيخة"، وإن لم يوجد في القرآن، إلا أنه، ويا للعجب: "أنزله الله تعالى في كتابه، وإنما نسخت قراءته دون حكمه" بشهادة عمر بن الخطاب الذي رآه وقرأه وتمعنه. وقد خشي في الحديث المتفق عليه والمنسوب له: "إن طال بالناس زمان أن يقول قائل، ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى". وهكذا يضطر شيخ الاعتدال، أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري إلى أن يقول: "إن الرجم حدٌّ من حدود الله، لا يمكن لأحد أن يتجرأ عليه، أو يتهاون في تطبيقه، ولا بد من شروط لذلك التطبيق" ... وخوفاً من أن يهب في وجهه حماة الشريعة وأصحاب الأدلة الفقهية الدامغة، يوضّح: "الرجم بجرم الزنا حد شرعي، لا بد أن يقام. لكن، بشروط معينة لا تجعل منه سبيلاً لتعدي الناس على بعضها البعض، أو تشويه لدين الإسلام".

أيها الحالمون بدولة إسلامية تنقذنا من واقعنا المر، وتوصلنا، بنصرة الله، إلى عالم التقوى والكمال، أقول لكم رأي مراقبٍ، يحب بلده، ويتمنى له الوصول، مثل أغلبكم إلى دولة العدل والعقل: إن ما تبنون عليه تصوراتكم، عن دولة تستمد قوانينها الدنيوية الحياتية من زمن آخر، ومكان آخر، سيصل بكم إلى جعلنا فئران تجارب، تجرون عليهم اختباراتكم التي اختبرت البشرية ما يماثلها طويلاً، ودفعت ثمناً غالياً، سالت فيه أنهار من الدماء، وزهقت فيه أرواح بشر، ودمرت فيه حيوات، وبادت شعوب، ودالت دول، لنصل، اليوم، إلى النظام التعددي الذي يرفض الاستبداد، والذي يتساوى فيه الناس بالمواطنة، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين، ويتم فيه تداول السلطة بإرادة الناس التي يعبرون عنها في صناديق الاقتراع الحرة، ويمارسون فيها حريتهم التامة بالتعبير، وحقهم المطلق بتشكيل الأحزاب، وليختاروا أنظمتهم العادلة من كل ما توصلت إليه البشرية، عبر مخاضها العسير، ليعملوا ويبنوا بلادهم، ويلحقوا بركب العلم والمعرفة الذي سبقنا سنين تكاد تكون ضوئية، تاركين للدين مكانته الروحية التي اختزلها الشيخ الأكبر، محي الدين بن عربي، بأبياته الشهيرة:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي/ إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَّ صُـورةٍ/ فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ

وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ/ وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ/ ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني

وبالنسبة للحياة "الدنيا"، حياتنا التي نسعى إلى تحقيقها في دولة مدنية (لا دينية ولا عسكرية)، تسقط كل أنواع الاستبداد والعبودية، فلا بد من بنائها وفق المصلحة، وبما لا يخالف العقل والعدل، "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ" (الآية 58، سورة النساء)، والعدل هو ما يمليه التطور وتجارب البشرية ويقبله العقل، وقد اصطلح على تسميته النظام الديموقراطي، نظام المواطنة المتساوية، وإلا سندخل، سنوات طوال، في متاهة أشنع من التي عشناها خلال أكثر من خمسين عاماً.

3CC812B6-3035-4331-9B43-20E37ED18741
هيثم حقي

مخرج تلفزيوني وسيناريست سوري، له أعمال عديدة في الدراما والسينما.