.. وماذا عن جبهة النصرة؟

.. وماذا عن جبهة النصرة؟

10 أكتوبر 2014

سعى الإسلاميون إلى استبدال مصطلح الثوار بمصطلح المجاهدين(25مارس/2014/Getty)

+ الخط -

يتباهى الإخوة في جبهة النصرة بأنهم ليسوا تكفيريين، ولا يتدخلون في الحياة الاجتماعية للسوريين في أثناء الثورة على نظام الأسد، ويؤكدون أنهم متعايشون مع الفصائل المقاتلة الأخرى، لا يعتدون عليها، ولا يحتلون مقراتها، ولا يصادرون أسلحتها وذخائرها، مثلما فعلت أختُهم التوأم الدولة الإسلامية، "داعش".

عناصر "النصرة"، كما يقولون، متفرغون للجهاد في سبيل الله، ومحاربة النظام الذي يصفه الثوار المدنيون بأنه مستبد، طائفي، قاتل، مجرم، يمضي قدماً في الحل الأمني الشديد وإلقاء البراميل على الناس؛ ويصفه إخوة إسلاميون بأنه نصيري، علوي، وكافر، وفاسق، مدعوم من الإيرانيين الفرس، المجوس، وحزب اللات... إلى آخره.

يظهر الآن، جلياً، أن السوريين الذين قاموا بالثورة في مطلع سنة 2011، لم يعد ينطبق عليهم شعار (الشعب السوري واحد)؛ الشعار الذي بُحَّتْ حناجرُهم وهم يرددونه في مظاهراتهم السلمية، آناءَ الليل وأطرافَ النهار. ولو أردنا أن نُضَيِّقَ المفهوم قليلاً، بغية أن نفهم لُبَّ القضية، وقلنا إن (الثوار السوريين واحد)؛ لوجدنا أن هذا الكلام، هو الآخر، لم يعد صحيحاً، ويحتاج إلى تدقيق وتأمل كثيرين.

في مدينة إدلب، في الأشهر الأولى للثورة، وبينما كنا منهمكين في المظاهرات السلمية، ونهتف مرددين المنطلقَ البدئي للثورة الذي يتلخص بهتاف (الله- سورية- حرية وبس)، ونجهز اللافتات المناسبة للاعتصامات في الساحات العامة؛ تناهى إلى مسامعنا خبرٌ يقول إن جماعة دينية، لا ندري مَنْ هي، اقتحمت مسجداً في المدينة، وأجبرت خطيبه على مغادرة المنبر، وصعد مكانه خطيبٌ من الجماعة، ليقول للمصلين ما معناه إن هذه الثورة ليست (سورية)، وليست من أجل (الحرية)، وإنما هي (جهاد) المسلمين ضد الحكم النصيري، لدحره وإقامة دولة الإسلام على أرض الشام!

يومها، أحسستُ بخطر كبير حقيقي يتهدد الثورة، وسألتُ أحد الزملاء البارزين في العمل الثوري عن الموضوع، فقال لي إن هؤلاء جماعة الرايات السود!، ولما استفهمتُ منه عنهم قال لي، باستخفاف: هؤلاء شيء له علاقة بتنظيم القاعدة، ولكن لا تهتم، فوجودهم قليل، ولا يشكلون أي خطر على الثورة.

صدقت كلامه يومئذ، لأننا طوال عمرنا لم نسمع بوجود هذا التنظيم في بلادنا، ولا حتى على هذا النحو المحدود. ويعرف معظم السوريين، مثلما أعرفُ، أن تسليح الثورة السورية، وبغض النظر عن تقييمنا له، صواباً أو خطأً، قد أدى إلى تراجع الثورة السلمية المدنية، وتَزَايُدِ وجود التنظيمات الإسلامية. وقَوِيَتْ، إثر ذلك، شوكة جبهة النصرة، وازدادت شعبيتُها بقيامها بعمليات عسكرية نوعية، استهدفت أماكن مخصصة للتنكيل بأبناء الشعب السوري، كفروع المخابرات الجوية في دمشق وحلب، ومقر أركان الجيش. وسعى الإخوة الإسلاميون، خلال هاتيك الأثناء، إلى استبدال مصطلح (الثوار)، بمصطلح (المجاهدين)، ومصطلح (الشعب) بمصطلح (المسلمين). وأصبح (القائد) المدني أو العسكري يعرف باسم (الأمير)، وزال مفهوم (الانتخاب) الذي كنا نرجو تكريسه في المجتمع السوري، وحل مكانه مفهوم (المبايعة). وفي تطور لاحق، لم يعد أذى النظام والميليشيات الموالية له ينصبُّ على المسلمين في بلاد الشام، بل أصبح يقال، في الأدبيات الإسلامية، إنهم يعتدون على أهل السُّنَّة! والمحاكم المدنية التي كانت تحاول تطبيق العدالة بطريقة ما اسْتُبْدِلَتْ بالـ(المحاكم الشرعية) التي تعتمد على قضاةٍ، يفتقرون إلى الكفاءة والتروي، إذ بمجرد ما يقتنع هذا المدعو (القاضي) بقرار ما، ينفذه حالاً، ولو كان الإعدام!

لم يكن لدى الثوار المدنيين، الليبراليين، والديمقراطيين، وحتى العلمانيين، مشكلة مع جبهة النصرة، حتى إن المناضل الليبرالي، جورج صبرا، في مقابلة تلفزيونية أواخر 2012، اعتبر جبهة النصرة جزءاً من الثورة السورية على النظام الديكتاتوري، ولم يكترث صبرا لانتقادات كثيرة وجهت له لقاء ذلكم التصريح!

لن أغرق في التفاصيل التي يعرفها القاصي والداني، المتعلقة بظهور تنظيم داعش، وانفصال جبهة النصرة عنه، والممارسات الإرهابية التي كان "داعش"، وما زال،  يرتكبها بحق الشعب والثورة والبلاد، لكنني، سأتحدث عن تصرفات "النصرة" التي اتخذت في الأشهر الأخيرة، طابعاً استبدادياً، ربما لا يرقى إلى مستوى استبداد داعش، ولكن، يجدر بنا أن ننتقده، لأننا ما نزال في (ثورة)، ولأننا لم نعد مهددين بالقتل والاعتقال والتعذيب من النظام المجرم وحده، بل أصبحنا مهددين، ولله الحمد، من جهات أخرى، لا تقل إجراماً وإيذاء عنه، محسوبة على الثورة.

لا أفهم، ولا أتفهم أن يقوم فصيل يثور (نظرياً) على النظام، كجبهة النصرة، باحتجاز عناصر من الأمم المتحدة، أو يقوم بأفعال تؤدي إلى إيقاظ نزعات عنصرية موجودة لدى فئات في الشعب اللبناني ضد مليون وستمئة ألف لاجئ من السوريين العزل، الهاربين من نيران النظام السوري المجرم إلى الأراضي اللبنانية الشقيقة. ولا أستطيع أن أقبل بمشاهدة فيديو يمثل إعدام جندي لبناني مع إجباره على القول: كفوا عن إيذاء أهل السُّنَّة.

كما أن جبهة النصرة اتخذت من "مكافحة السرقة والفساد" ذريعة لمهاجمة فصائل، أو شخصيات تنتمي إلى الجيش الحر (في بروما وحفسرجة مثلاً)، وفي مناطق كثيرة محررة (المعرة مثلاً) أجبرت "النصرة" تلميذات المدارس الصغيرات على ارتداء الجلابيب الشرعية!.

قال أمير جبهة النصرة، الجولاني، في حوار تيسير علوني معه في قناة الجزيرة، إن الجبهة حينما تتحرر سورية من حكم عائلة الأسد تريد شيئاً واحداً، هو تطبيق شرع الله. ومعلوم لدى الجولاني، بالطبع، أن شرع الله ثابت، ويمثل القرآن الكريم والسنة النبوية، لكن مفسري القرآن والأحاديث يشتغلون ضمن طيفٍ شديد الاتساع، بدليل أن الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي كان يَعْتَبِرُ كلَّ ما يرتكبه حافظ الأسد ووريثه بشار والمجرمون الموالون لهما من أعمال منسجماً مع شرع الله! ولا يستطيع أحد أن يزعم أن تنظيم داعش حينما يرتكب جرائمه، إنما يرتكبها نوعاً من الضلال أو الحياد عن شرع الله، بل إنه يتقرب بدماء ضحاياه إلى الله زلفى.

لن تنتصر الثورة في سورية لا على النظام، ولا على غيره، إذا لم تستعد قرارها المبدئي بمحاربة الاستبداد والتسلط، والعودة إلى شعاراتها التي هتفت بها حناجر الملايين في حمص وحماه ودمشق والمدن الصغيرة والقرى، وهو: الله- سورية- حرية.. والشعب السوري واحد. والدولة المدنية التي خرجنا، نحن السوريين، نطالب بها، لا تطبق شرع الله، كما تريد "النصرة" وغيرها من الفصائل الإسلامية، لأن هذا مبعث لخلافات في التفسير، التي تصل إلى حدود الاقتتال الدائم، لكنها، أي الدولة المدنية البرلمانية، تقوم على المواطنة، والمساواة، والعدالة، والحب، والخير، والحرية، والتداول السلمي للسلطة، وهذه المفاهيم كلها لا تتعارض، فيما أحسب، مع شرع الله.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...