الصحافة والفيروس .. الجميلة والوحش

الصحافة والفيروس .. الجميلة والوحش

14 مايو 2020
+ الخط -
منذ أكثر من ثلاثين عاما، وأنا أفتتح يوم العمل بتصفح الصحف، باعتبار ذلك، بالإضافة إلى أنه شغف شخصي، جزءا من متطلبات عملي في الصحافة. وحتى عندما انحسرت الأضواء قليلا عن الصحافة الورقية منذ سنوات، تحت وطأة انتشار الأخبار والمعلومات والأفكار والآراء الصحافية بوسائط أخرى غير الورق، بقيتُ على عادتي بتصفح الصحف المحلية كلها وما تيسر لي من العربية يوميا. وبقيت على هذه الحال حتى مطلع هذا الأسبوع، بداية تنفيذ القرار الحكومي في الكويت بوقف الطباعة. في اليوم الأول، شعرت بما يشعر به من يفقد رفيق حياته الذي عاشره عقودا؛ حزن ووجع وشجن خفي حاولت التغلب عليه بمضاعفة القراءة الإلكترونية للصحف! 
هل وضع فيروس كورونا النقطة الأخيرة في نهاية السطر الأخير من سيرة الصحافة الورقية في العالم؟ هل أصاب هذا الفيروس الصحافة فأرداها قتيلة، لتكون أولى ضحاياه فعلا كما يردّد بعض أهل المهنة والقرّاء هذه الأيام؟ هل سيقضي هذا الوحش القاتل على الجميلة الورقية؟
الصحافة فكرة مكونة من الخبر والرأي، والفكرة لا تموت، لكنها تغير وسائل نشرها وانتشارها بتغير الظروف حولها، ثم إن الأخبار لا تنتهي، والآراء لا تتوقف، خصوصا في أوقات الأزمات والمنعطفات الخطيرة في تاريخ البشرية.. كأزمة كورونا، فتقليديا كانت الصحافة تزدهر في أوقات الأزمات، وحتى بعد ظروف التحدّي التكنولوجي، والصحافة الإلكترونية في السنوات الأخيرة، كنا، صحافيين وقرّاء، نرصد انتعاشا واضحا وكبيرا للصحافة التقليدية الورقية في أثناء الأزمات المحلية والعالمية أيضا، وذلك لأسباب كثيرة تعود إلى مميزات تتحلى بها الصحافة الورقية التقليدية، وتتفوق فيها على منافستها من الصحافة الإلكترونية الخالصة.
ولكن لفيروس كورونا معطياته الخاصة وغير المسبوقة في كل المجالات، ومنها مجال الصحافة، فبما أن الظرف العالمي الراهن خطير وواحد في العالم كله، لا بد أنه ألقى بظلاله السوداء على شوارع الصحافة العالمية كلها. ولكن الأمر هنا ملتبس بشكل غير مسبوق تقريبا. فعلى الرغم من أن الحاجة أصبحت ملحة وضرورية للأخبار، وخصوصا المتعلقة بهذا الفيروس وتداعياته، وهي سريعة ومتنوعة إلى درجة التناقض أحيانا، ومتداخلة بكل الفضاءات السياسية والاقتصادية والصحية والمجتمعية والإنسانية، إلا أن جسد الصحيفة نفسها أصبح أداةً محتملةً كما يقول الأطباء وخبراء الصحة وعلماء الأوبئة، لنقل العدوى بين من يتداولونها، فهذا الفيروس يعيش على الورق ساعات وربما أياما، وبالتالي قد تتسبب الصحيفة الورقية التي تتناقلها الأيدي الكثيرة حتى وصولها إلى يد قارئها، بنقل العدوى إليه وإلى غيره ممن سبقه بلمسها أيضا.
ما العمل؟ أدوات ووسائل أخرى لنقل الأخبار الصحافية بعيدا عن احتمالات الورق المرضية، وفي طليعتها الحلول التكنولوجية التي تعتمد على الإنترنت وفضاءاته الواسعة، وخصوصا أن هذه الحلول كانت قد فرضت وجودها قبل انتشار الفيروس بسنوات. ولكن ما جعلها غير قادرة على وضع النقطة الأخيرة في حياة الصحف الورقية تلك النزعة الإنسانية المرتبطة بالحنين للورق، ولمسه وشمه أيضا، والتي كان كثيرون يقاومون عبرها سيطرة الشبكة العنكبوتية بالكامل على عالم الصحافة في شكلها المقروء. وقد كان هذا الحنين قادرا على المقاومة لإبقاء الشكل الورقي للصحف على قيد الحياة بضع سنوات أخرى، لولا مفاجأة الجائحة الكونية التي اختصرت الزمن كما يبدو، وإنْ بشكل مؤقت في البداية، فقرار منع الصحف من الطباعة والتداول مؤقت. ومن الواضح أن صحفا كثيرة ستجده فرصة مناسبة للانتقال النهائي إلى فضاء الإنترنت بعيدا عن الورق، مع ما يتطلبه ذلك من تغييراتٍ كثيرة في حياة الصحافة والصحافيين.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.