عدّاد كورونا العربي المنخفض

عدّاد كورونا العربي المنخفض

07 ابريل 2020
+ الخط -
مع تزايد أعداد الموتى والمصابين بوباء كورونا في أوروبا على نحو مذهل، وتفاقم الوضع ذاته في أميركا بشكل مرعب، لا سيما في "عاصمة العالم" نيويورك، ظلت الأسئلة المسكوت عنها في العالم العربي تتناسل من بعضها بعضا، فيما راح الناس يعقدون المقارنات: لماذا أعداد المصابين لدينا أقل؟ ما السبب وراء تواضع الأعداد في بلاد نُظمها الصحية أضعف، ومنظومتها الغذائية أفقر، وتطوّرها التكنولوجي أدنى منه في الغرب؟ هل لدينا مناعة أفضل؟ هل تدابيرنا الوقائية أنجع؟ وكيف لهذه الجائحة أن تصول وتجول هناك، وتقعد القرفصاء، فيما تتسلل في بلادنا على استحياء شديد؟ 
إذا كانت كل الحقائق نسبية، ما عدا حقيقة الموت المطلقة، يا أخا العرب، فإن صورة الوباء في بلادنا تبدو أرحم مما هي عليه في الشرق والغرب، فالمصابون هنا بالمئات فقط لحسن الحظ، والمتوفون بالعشرات، وأحياناً يحسبون على أصابع اليد الوحدة، فيما آلاف الموتى هناك، وعشرات ألوف المصابين هنالك، ليس بفضل إعجاز علمي تحقق لدينا، أو بفعل الدعوات الطيبات الصالحات، وإنما جرّاء الأخذ بزمام المبادرة في وقت مبكر، بتفعيل أداة الوقاية الوحيدة المتاحة، ونعني بذلك الحبس المنزلي طوعاً، ناهيك عن منع التجمهر وحظر التجوّل الإلزامي، من دون الالتفات كثيراً إلى مسائل الحريات الفردية، والخصوصية، التي تمسّك بها الغرب طويلاً على الرغم من وطأة الجائحة.
ومع التحفظ على صحة الأرقام الرسمية المنشورة من لدن أنظمةٍ تخشى المكاشفة، ولا تعرف الشفافية، فمرجّح أن قلة أعداد المصابين في بلادنا مردّها ثلاثة أسباب رئيسة: أولها سبب تقني لا خلاف عليه، نابع من نقص أدوات الكشف، ومحدودية مراكز الفحص المتاحة، لتقصّي الحالات حاملة الفيروس المعدي، وهو نقصٌ مشترك، وإن كان متفاوتاً بين سائر الدول. الثاني سبب سياسي متوارٍ خلف غلالةٍ شفيفة، تراه بأم العين ولا تلمسه باليد، فيما الثالث، وهو بيت القصيد في هذه المطالعة، فهو سبب ثقافي ديني غائر في النفوس، على نحو ما سيلي تبيانه.
ومع أن الدول العربية تفاوتت في معالجتها الأزمة، ومالت، في بداية الأمر، إلى اتباع سياسة الإنكار، والتستر على دلائل انتشار الوباء لديها، تماماً على نحو ما جرى عليه الحال في إيران، من تجاهل وتعامٍ، بلغ حد اعتبار فيروس كورونا مؤامرةً أميركية على الجمهورية الإسلامية، إلا أن الدول العربية تخلت تدريجياً عن منطق المكابرة، فيما بقيت، جميعها، متمسّكة بصورة الدولة الكفوءة، ومستميتة في الدفاع عن مهابة الحاكم كلّي القدرة، حيث كل شيء على ما يرام، والأمور تحت السيطرة، الأمر الذي دفع العواصم المعنية إلى تصغير الأرقام بعد الفشل في تصفيرها، وإدارة الموقف، من ثمّة، بقدر من الواقعية.
على أن المعضلة الكبرى، المستفحلة مع تفشي الوباء أكثر فأكثر، ازدادت التباساً، على خلفية ما نسميه "الحرج الاجتماعي" المتأصل في ثقافة قروسطية متوارثة من زمن البرص والجرب والكوليرا والطاعون، ثقافة تنظر إلى المصاب بداء سارٍ على أنه موبوء، يجلب العار لأهله، وبالتالي ينبغي تجنّبه، وقطع الصلة به، ما يحْمل المصاب، أحياناً، على إخفاء مرضه، وفق منطق "إذا بليتم فاستتروا"، وقد يتمنى الموت في سرّه، لئلا يواجه الصد والنبذ والاحتقار، وربما التنكّر من جانب ذويه، الأمر الذي يفك بعداً واحداً على الأقل، من لغز هذه الإحصاءات المتدنية في أعداد المصابين، طالما أن غالبيتهم من العمالة الآسيوية، لا سيما في الدول الخليجية.
أمام هذا الاستعصاء، عمدت دول إلى القوة الجبْرية، واستخدام أجهزة الأمن بتطبيقاتها السرّية، لتتبع العائدين والمخالطين، حيث خصص الأردن، مثلا، رقم هاتف للتبليغ عن المصابين، مع وعد بالحفاظ على هوية المتصل مكتومة، لعل هذه الوسيلة تسهم في الكشف عن متسترين على إصاباتهم، وجلب ممتنعين عن الذهاب إلى مراكز الفحص، ليس جرّاء عدم ملاءمة مراكز الاحتجاز، وإنما لتحاشي الفضيحة، وخشية المسّ بالمكانة الاجتماعية، الأمر الذي يوضّح شدة الشعور بالعار المتخيّل، ومدى استحكام الحرج الضارب في تلافيف ذهنيةٍ شعبيةٍ مسكونةٍ بروح البداوة، المحمولة على جناح موروث ثقافي ديني باذخ الحضور، قوامه المفاضلة بين الغُلب "بستيرة" والغُلب بفضيحة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي