الفيروس وتعرية العالم الأول

الفيروس وتعرية العالم الأول

05 ابريل 2020
+ الخط -
من الممكن القول إن جائحة كورونا وضعت حدّاً للتقسيمات التي وزعت على أساسها دول متقدمة، أو دول العالم الأول، وبين دول في المنتصف، وأخيراً دول العالم الثالث التي تندرج معظم دولنا العربية ضمن تصنيفها، فالفيروس الذي ضرب الجميع من دون تمييز أظهر أن لا فرق تقريباً بين غالبية هذه الدول، سواء على الصعيد الصحي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وحتى الإنساني والقيمي الذي كان أساس تركيب هذه التصنيفات، خصوصاً أن دول العالم الأول هذه كانت تصنف نفسها المدافعة الأولى عن القيم الإنسانية وحق الحياة، غير أن الوباء أظهر أن الواقع مختلف. 
لا أحد يحاجج في أهمية القيم الإنسانية، وأولويتها بالنسبة إلى الحياة البشرية، وإذ كنا في السابق ننظر إلى الدول المتقدّمة باعتبارها رائدة في الدفاع عن هذه القيم، إلا أن نماذج عديدة شهدناها خلال الشهرين الماضيين في عواصم عالمية تظهر أن الخطاب العام لا يتناسب بالمطلق مع التطبيق. لعل النموذج الأول كان في بريطانيا، حين خرج رئيس الوزراء، بوريس جونسون، بخطاب إلى الأمة يطالب فيه البريطانيين بـ"توديع أحبائهم". المقصود من ذلك كان كبار السن الذين يرى الطب أنهم أكثر الناس عرضةً للوفاة بسبب الفيروس. لم يخجل جونسون من العبارة، وهو الذي تبنّى في المرحلة الأولى من مواجهة الفيروس نظرية مناعة القطيع، والتي تقوم على استعداد الدولة لتحمّل عدد لا بأس به من الوفيات مقابل أن يكوّن المجتمع مناعةً قادرةً على التغلب على الفيروس. وعلى الرغم من أن لا دليل علمياً للنظرية البريطانية، إلا أن الحكومة كانت ماضية فيها، وعلى استعداد للتضحية بمئات آلاف البشر، قبل أن تتراجع عنها جزئياً، تحت ضغط الانتقادات الطبية، ولكن يبدو أنه بعد فوات الأوان. بريطانيا على هذا الأساس كانت مستعدّة لإسقاط قيمة "الحق في الحياة"، وهو ما لم تفعله دولٌ كثيرة تسمى "عالماً ثالثاً"، بل هي أظهرت حرصاً على مواطنيها أكثر مما أظهرته بريطانيا وغيرها من الدول.
الأمر نفسه بالنسبة للعلاج اليوم، في بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا وغيرها من "الدول المتقدمة"، فالأولوية هي لمن له حظوظ في النجاة أكثر من غيره. وقد طلب من الأطباء في بريطانيا والولايات المتحدة أن "يلعبوا دور الله"، بحسب ما ذكرت الصحف الإنكليزية والأميركية، أي أن يختاروا بين المرضى الذين لديهم فرصة للحياة، وهو أيضاً ما لم يحصل في دول العالم الثالث، والتي لا تزال نسبة الوفيات فيها منخفضة، قياساً بما تشهده الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
يمكن الانطلاق من هذه النقطة للحديث عن النظام الصحي الأوروبي والأميركي، والذي كانت تحيط به خرافاتٌ عديدة دحضها فيروس كورونا، إذ اتضح أن التجهيزات الطبية في هذه الدول ليست أحسن كثيراً من غيرها من دول العالم الثالث، فها هي الولايات المتحدة تصارع للحصول على أجهزة تنفس كافية للعدد الكبير من المرضى. الأمر نفسه بالنسبة إلى فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وإسبانيا وهي الدول الموبوءة بشكل كبير بالفيروس. الأمر قد لا يختلف كثيراً في "دول العالم الثالث"، لكن الأمور بالنسبة إلى هذه الدول لا تزال تحت السيطرة، وخصوصاً أن تجربة المواجهة كانت سباقة بالنسبة إلى هذه الدول عن مثيلاتها في الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
إجراءات المواجهة في العالم "غير الأول" استفادت من تجارب سابقة، ونجحت إلى حد كبير في الحد من التفشّي الكارثي الموجود حالياً في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، وبغض النظر عن التجارب الكورية الجنوبية والصينية والألمانية، وهي تجارب أثبتت نجاعتها، على الرغم من الملاحظات على آلية تطبيقها، خصوصاً في الصين، فالصحافة الغربية بدأت تتحدّث اليوم عن تجربة جنوب أفريقيا، وقدرتها على تقليل عدد الإصابات.
هناك أمثلة كثيرة أخرى يمكن سردها، والتي تؤكد أن كورونا فضح التصنيفات العالمية، فلا دول متقدمة في مواجهة الجائحة، إذ إن الجميع بات في الصفوف المتأخرة.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب رئيس تحرير "العربي الجديد"، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".