ضدّ سُمّ الشيخوخة

ضدّ سُمّ الشيخوخة

21 ابريل 2020
+ الخط -
لطالما اقترن اسم لويس سبولفيدا (1949)، الكاتب التشيلي والصحافي والناشط السياسي الذي توفي الأسبوع الماضي في إسبانيا إثر إصابته بفيروس كورونا، بروايته "العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية"، وهي روايته الأولى التي أشهرته من كبار الكتّاب وحملته إلى العالمية، وقد تُرجمت إلى نحو 35 لغة، من بينها العربية (ترجمة عفيف دمشقية، دار الآداب، بيروت). وبالقدر نفسه، عُرف ذاك الذي نفاه الديكتاتور بينوشيه، بعد رميه في السجن والحكم عليه بعقوبة الحبس 28 عاما، تحوّلت بعد عامين ونصف إلى قرار بإسقاط جنسيته عنه، وبنفيه بعد تدخل منظمة العفو الدولية للإفراج عنه، عُرف بنضاله البيئي والتزامه ونشاطه السياسي إلى جانب المقموعين والفقراء، هو الذي صرّح ذات يوم قائلا: "أكتب لأنني أؤمن بالقوّة النضالية للكلمات".
تبدأ رواية "العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية" بأن يجد "الشُوار" (هنود) الذين يعيشون في غابة الأمازون جثة أحد الصيادين البيض. يجتمع سكان تلك القرية الصغيرة، إل إيديليو، حول الجثّة المشوّهة، مصغين إلى كبيرهم، العجوز السبعينيّ، وهو يروي اللحظات الأخيرة لهذا الصيّاد المتهوّر الذي دفعه جنونُه إلى صيد أطفال النمور المرقطة في مكان غير بعيد عن مكان وجود أهاليها. هكذا يتضّح للقارئ سريعا أن هذا العجوز، المدعو أنطونيو جوزيه بوليفار، يتقن كلَ خبايا الغابة، حيث عاش برفقة أولئك الهنود منذ أربعين عاما، قضاها حرّا متفلّتا في الأدغال التي سلّمته كل خفاياها وأسرارها، إلى أن بدأ يحسّ بشيء من الوهن، وبعجز جسده عن مجاراة رغبته بالعيش كما حين كان شابا، فإذا به يقرّر الاستقرار في كوخٍ من القصب، حيث يولع بقراءة الروايات الغرامية الخفيفة التي يوفرها له صديقُه طبيب الأسنان، والتي تُرجع إليه ذكرياتِه مع حبيبته وزوجته التي قضت بالملاريا، بعد انتقالهما من جبال البيرو إلى العيش في قلب الغابة.
يتّهم العمدة الشوار بقتل الصيّاد، إلا أن بوليفار يسعى إلى إقناعه ببراءتهم: هذا عمل النمرة الأم التي ولا بدّ جرح الصيّادُ ذكرَها وقتل أطفالها. لا يقتنع العمدة بادئ ذي بدء، إلى أن تقع جرائم أخرى، تفهمه أن ما يقوله العجوز هو الحقيقة، فيتمّ تنظيم حملةٍ لقتل النمرة الأم، ينتهي فيها بوليفار وحيدا لمواجهتها بعد انسحاب الآخرين خوفا.
عندما يجد بوليفار النمرة، تهاجمه وتبطحه أرضا من دون أن تصرعه، فيفهم أنها إنما تُريه ذَكرَها الجريح وهو ينازع، فيمتثل لمطلبها ويُنهي حياته، وتختفي هي. ثم في ليلة أخرى، وهو حالمٌ بأن حيوانا مفترسا متحوّلا يجثم فوق غصن شجرةٍ يعلوه، وأنه، بحسب الثقافة الهندية، يرمز إلى موته هو، وإلى ضرورة اصطياده لينجو، يستيقظ من حلمه جزعا، فإذا بالنمرة تترصّده، متهيّئة لأن تثب وثبتها الكبرى عليه، فيصوّب بسرعة نحوها طلقتين ترديانها صريعة.
وبما أن العجوز العاطفيّ تعلّم أن يحترم الطبيعة، مهما كانت متوحّشة وشرسة، وأن يلتزم بقوانينها، وبالحدود التي ينبغي إقامتها بين عالم الإنسان الجشع، الفاتح، العدواني، والطبيعة وما يأهلها، نراه متأثّرا بشدّة، محبطا بعد قتل النمرة التي ما كانت لترتكب ما ارتكبت لولا تعدّي الإنسان عليها. يبكي بوليفار حرقة، ويرمي النمرة المرقّطة في النهر، وهو يراقب حزينا المياه تحملها بعيدا.
لقد أنهى سبولفيدا كتابة الرواية عام 1988، وهو العام الذي اغتيل فيه صديقه البرازيلي تشيكو منديس، المعروف بدفاعه عن غابة الأمازون، في حين بدأت نواة هذه الرواية تتشكّل قبل عشرة أعوام، عندما اضطر الكاتب إلى ترك تشيلي منفيا، ليقضي عاما وبضعة أشهر في كوخٍ برفقة هنود الشوار. في تلك الفترة، فوجئ مع رفيق هنديّ، في أثناء تجوالهما في الغابة، بعاصفة قوية، ما اضطرهما إلى اللجوء إلى تخشيبةٍ يسكنها رجل أبيض عجوز..
ما تزال هذه الرواية الصغيرة تلاقي قرّاء جددا وإعجابا متزايدا، هي التي نقرأ فيها: "كان يمتلك الدواء المضاد لسُمّ الشيخوخة المريع، كان يجيد القراءة".

دلالات

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"