العالم بعد كورونا والسيناريو المغيّب

العالم بعد كورونا والسيناريو المغيّب

13 ابريل 2020
+ الخط -
يتساءل ساسة ومفكرون كثيرون عما سيكون عليه الوضع في العالم بعد اختفاء فيروس كورونا المستجد. هل سيكون مختلفاً، وبأي درجة، أم سيكون كما كان، من دون استبعاد رتوشات لن تغير من الواقع المعلوم شيئاً؟ وقد تعدّدت الأجوبة، واختلفت السيناريوهات، وذهب المحللون في توقعاتهم مذاهب شتى، فمنهم من يعتبر هذه الجائحة، على خطورتها، مجرّد حدث طارئ، سينتهي كما انتهت أوبئة سابقة كانت أشدّ فتكاً، وفي عصورٍ لم يكن لها من الإمكانات والوسائل ما لعالم اليوم. ولذلك، سيستمر العالم كما كان قبل اندلاع الوباء، إلا من تغييراتٍ تقتضيها سُنة التطور، وضرورة الملاءمة مع مستجدّات العصر. وستبقى الولايات المتحدة الأميركية مستأثرة بالقيادة والهيمنة. وبالتالي، لا ينبغي، حسب هؤلاء، أن نستسلم للمبالغات، ونسرف في الأماني التي لا تستند إلى أساس. وسواء اعتبرنا، يضيف هؤلاء، أن الوضع ما قبل فيروس كورونا كان عادياً وطبيعياً أو فيه اختلالات ينبغي معالجتها، فالراجح أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل صدمة الوباء.
وهناك من يقول إن جائحة كورونا تدخل في صنف الأحداث التي كان لها بالغ الأثر في تاريخ البشرية، مثل الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وما يعرف بالكساد العظيم عام 1929، وسقوط جدار برلين وأحداث 11 سبتمبر. وقد رأينا آثار تلك الأحداث، والتحولات العميقة جداً التي أحدثتها في بعض البلدان. ولذلك، لا يمكن أن يعود العالم كما كان. ولعل أهم مؤشر هو
صعود الصين التي تتأهب لقيادة العالم، إن لم تكن بمفردها، فلا أقل من أن يكون ذلك مع الولايات المتحدة، منهية بذلك الهيمنة الأميركية.
ومنهم من يتبنى سيناريو آخر، يركز على الوضع الداخلي للدول، ويقول إن السلطات الاستثنائية المعتمدة لمواجهة فيروس كورونا، وكذا بعض الممارسات التي كانت مرفوضة إلى عهد قريب، وتم اللجوء إليها اضطراراً، ستستمر، ولن تتنازل عنها السلطة بسهولة. وبناء عليه، ستتقلص حرية الناس في المستقبل، وسيزداد نفوذ الأجهزة التنفيذية والمخابراتية في الدولة. هذا في الأنظمة الديمقراطية، أما في الدول المحكومة بأنظمة استبدادية، فإن التغول القائم كاف، وأضراره تجاوزت الحدود، ومع ذلك ستطلب المزيد بحجةٍ أو بدونها، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
هذه السيناريوهات تقديرات، والناس أحرار فيما يرون ويقدرون، ولكن ما أثار الكاتب في هذه الحوارات والمناقشات المتواصلة أن يغيب أو يغيّب (بناء للمجهول) سيناريو آخر، احتمال أن يكون للشعوب الإسلامية بروز يبوئها مكانةً محترمةً بين الأمم. ويقتضي هذا انهيار الأنظمة الاستبدادية، وانبعاث أنظمة حكم جديدة، أساسها رضى الشعب واختيارهم الحر، ومشروعها القيام بالقسط، وتوزيع الثروة بالعدل، وتصفية تركة الاستعمار والتخلف اللعينة، وتجاوز الانقسامات الموروثة، ودعم السلم والسلام في العالم، وبناء نموذجٍ يدلّ بمثاله على عظمة 
الإسلام وما يكتنزه للبشرية من رحمة وتآخ وتضامن وتعاون على ما يفيد الإنسان المعذّب بنسيانه الله والدار الآخرة.
هذا السيناريو المبشر بتغير أحوال المسلمين إلى ما هو أفضل لأنفسهم، ولعامة الناس، إن وجد من خارج المرجعية الإسلامية، ثمّة من يتحدّث عنه ويدرجه ضمن الاحتمالات، حتى وإن احتسبها ضعيفة. وكأن الذين يفكرون في مستقبل العالم مسيّجون بسياج محكم، لا يستطيعون التفكير خارجه. قد يكون ذلك سهواً منهم أو من بعضهم أو عن غير قصد، وإنما كل ما في الأمر أنهم سطّروا ما انتهى إليه اجتهادهم في التقدير والاستشراف. ولكن آخرين يعرفون جيداً ما يقولون وما يكتبون، ولأي أهدافٍ يخططون. محترفون وخبراء في التلاعب بالعقول، يسوّقون "الصورة" أو"المآل" الذي تريده الرأسمالية المتوحشة والدكتاتورية الباطشة، ليتواصل النهب الاستعماري، والبؤس لأكثر سكان أهل الأرض، وليستمر العنف على الإنسان، والعدوان على البيئة، والترويج لحياة بدون معنى.
هناك طائفة من الخبراء، يا حسرة، ينطبق عليهم الوصف الذي أشار إليه الأميركي هربرت شيلر، في كتابه المترجم إلى العربية "المتلاعبون بالعقول"، مهمتهم بث الوعي المزيف. ينشرون الفكرة المراد تعميمها، ويضفون عليها من "العلمية" المزعومة ما يمكّنها من التسلل إلى النفوس، ويهيئها لتقبلها وما يترتب عليها، على اعتبار أن ذلك مقتضى التطور الطبيعي والحتمي لمسار الحياة، أو بمسوّغ فذلكةٍ من هذا القبيل، ولا راد لما يتوقعونه، حتى وإن كانوا، حسب زعمهم، غير راضين عنه، أو لديهم بعض التحفظ عليه، فإذا كان هناك من يصنف وباء كورونا ضمن الأحداث التي بصمت تاريخ البشرية، فلماذا الإصرار على ما يفيد بأن التحولات المرتقبة ستكون، في نهاية الأمر، لفائدة شعوبٍ دون أخرى، علماً أن هذه تشكل غالبية المعمورة؟ أما آن للمحرومين والمستضعفين أن يتحرّروا من قبضة الاستكبار، واستحمار الاستعمار، وعنف الديكتاتورية والرأسمال، وجشع المترفين أولي النعمة الرافضين كل تغيير يزعج نهمهم؟ أما آن لشعوبنا أن تتخلّص من المفسدين والخونة والعملاء، وأن يتولى أمورها خيارها لا شرارها؟
نتطلع إلى سيناريو آخر، غير السيناريوهات الرائجة التي بعضها أشد قتامةً من بعض، سيناريو نظنه مشرقاً ومفيداً للبشرية جمعاء، وليس لنا وحدنا، معاشر المسلمين وحسب. لا أزعم إن هذا سيتحقق ضربة لازب، أو كما تقلب الورقة من الكتاب، ولا حتى بعد زوال هذا الوباء مباشرة، 
إلا أن يشاء الله شيئاً آخر. ولكن اعتباراً لسنن الله في التغيير، واستفادة من عبر التاريخ، وانطلاقاً من الواقع الذي نعيشه، ونرى أن جل مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والنفسية والديمغرافية كلها تدفع، اختياراً واضطراراً، في اتجاه جديد رحيم بالبشرية. والمؤشرات على ذلك كثيرة وظاهرة، فغلوّ المستكبرين في الأرض قد بلغ منتهاه، ونهب خيرات المستضعفين قد بلغ درجةً من الجشع والوقاحة غير مسبوقة، والقسوة على الإنسان والطبيعة بلغت مداها، والحرمان طال وفي امتداد مهول، وأنّات البؤساء والمحرومين بلغت عنان السماء، والليبرالية المتوحشة تترنح بما كسبت أيديها، وعديلتها الدكتاتورية قد سلبت من يرزح تحت كلكلها أسمى ما وهبه الله، وهي حريته في أن يعرف ربه، وأن يقول "نعم" أو "لا" بملء فمه، إن رأى ذلك وقدّر بعد تبصر، من دون أن يخشى على نفسه. أليست هذه كلها عناصر دالّة على أن ميزان العدل الذي تقوم به الحضارة، وتستقيم به الحياة، ويصلح به الحكم قد اختل، وآن الأوان لإصلاح الخلل وتقويم العطب؟ وقد ذكروا أن كل شيء يدفع إلى منتهاه، فإنه عندئذ يكون في أضعف مراحله، وإنْ بدا للرائي خلاف ذلك.
هل هذا ضربٌ من الأحلام، أو سبح في الخيال، أو تعلق بأفكار طوباوية، نعوّض بها عن مآسي الحاضر ومخاوف المستقبل؟ لكلٍّ أن يرى ما يشاء، وحتى من كان الاستهزاء يوفر له بعض الانتشاء، فليستهزئ إن أراد. ويكفينا أن نسجل هنا للتاريخ أنه على الرغم من قتامة الأوضاع، فإن بشائر التغيير تلوح في الأفق، فالاستبداد سيزول إن شاء الله، وبحوله وقوته، من أراضينا، وخلاص المستضعفين آتٍ لا ريب فيه. وقد جرت سنة الله وحكمته أن يري الفراعنة والهامانات والمفسدين في الأرض من المستضعفين ما كانوا يحذرون، "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".
1F5FA078-ACB5-4138-A4E2-C00AB9A0240A
1F5FA078-ACB5-4138-A4E2-C00AB9A0240A
عبد الواحد متوكل

كاتب مغربي، دكتوراة في العلوم السياسية من بريطانيا، رئيس الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان.

عبد الواحد متوكل