حتى في الأوبئة تقمع الشعوب

حتى في الأوبئة تقمع الشعوب

07 مارس 2020
+ الخط -
لم يحتج الأمر إلى وقتٍ كثير، حتى بدأت شركات التسويق على مواقع التواصل الاجتماعي إعلاناتها الترويجية عن أنواع مختلفة ومتعدّدة من الكمامات العازلة، للحماية من العدوى بفيروس كورونا الذي يبدو أنه سوف يكون ثيمة العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، أنواع متعدّدة من الكمّامات، بألوانٍ وأشكالٍ متعدّدة، بحيث تتبارى الشركات المنتجة والموزعة لها في طرح المنتج الأكثر إغراءً للمتابعين. والمتابعون، بطبيعة الحال، مرعوبون من هذا الوباء، إذ طغت أخباره في الإعلام وفي "السوشال ميديا" على أخبار الحروب والثورات والأزمات الاقتصادية والصفقات السياسية واللاجئين وتغيرات المناخ والاحتباس الحراري والإرهاب والأعمال العسكرية المضادة له، تلك الأخبار التي شغلت الفضائيات والإعلام بكل فروعه، وشغلت العالم عقداً، استطاع فيروسٌ مجهري تطوّر في جسد حيوان ما، حسب ما يقال، أن ينحّي كل ما سبق، ليصبح هو الترند العالمي الجديد بكل ما يتعلق به، حتى بالتسويق التجاري.
وعلى الرغم من أن الأطباء في العالم نبّهوا من أن الكمّامات لا تفيد للوقاية، ولا تساعد على أن يصبح انتشار الفيروس أقلّ إلا بحدود قليلة جداً، فذلك لا يعني شيئاً لشركات التسويق، فهي قادرةٌ على استغلال هذا الظرف العالمي الحسّاس لصالح دورة رأسمالها، ولا مانع لديها من الكذب على عملائها الذين يقضون أوقاتاً طويلة على وسائل التواصل حالياً لمتابعة أخبار الفيروس، بأن تكتب عن الضرورة القصوى لاقتناء تلك الكمّامات، وعما أثبته الطب من قدرتها على الحدّ من انتشار المرض والوقاية منه، وعن فائدتها في إنقاذ البشرية من الفيروس القاتل. ولكم أن تتخيّلوا الأرباح التي ستحصل عليها تلك الشركات المنتجة والمصنعة للكمّامات، في ظل الهلع الذي أصاب البشر، والذي لا أحد يعرف إن كان يتناسب مع خطورة فيروس كورونا، فعدد ضحاياه ما زال قليلاً، إلا إذا كان هناك ما يخفى عن البشر حالياً، عن خطورته، تجعل التهويل منه نوعاً من التحذير المسبق لما سيأتي به من كوارث قادمة.
على أن الخطورة الكبرى المتعلقة بالمرض، والتي يمكن أن تؤدّي إلى انتشاره بشكل أوسع وأسرع، تكمن في التكتم عنه وإنكار وجوده، وهو ما يحدث للأسف في الدول ذات الأنظمة الأمنية، التي لا استقلالية فيها لهيئاتها المدنية، ولا انفصال عن إرادة النظام الحاكم ورغبته في الصورة التي يريد تقديمها عن البلد، حيث غالباً ما تترافق هيمنة هذه الأنظمة مع مجتمعاتٍ بالغة الفقر والتخلف، ومع منظومةٍ إدارية وصحية متهالكة، ومع فسادٍ مستشرٍ يجعل من الرعاية الطبية لمرضى فيروس من هذا النوع أمراً يشبه المستحيل، عدا عن أن ذلك يمنع منظمة الصحة العالمية من التقدير الحقيقي لحجم انتشار المرض، فكيف يمكن التصديق، مثلاً، أن دولة مثل إيطاليا سجلت أرقاماً كبيرة في عدد المصابين، بينما دولٌ عربية، خصوصاً التي لها علاقاتٌ شبه يومية مع الصين أو مع إيران اللتيْن سجلت فيهما أعلى أعداد وفيات لمرضى كورونا، تعلن خلوها من الإصابات، فيما هي دولٌ لا تُراعى فيها أدنى شروط العناية الصحية قبل الفيروس وفي أثنائه؟ وهو ما نبّه إليه الأطباء في العالم، من أن ثمّة كارثة بشرية سوف تحصل في حال انتشار الفيروس في الدول النامية والفقيرة عموماً، ودول أفريقيا خصوصاً.
مجدّداً، تُثبت الكوارث الطبيعية التي تلحق بالبشرية تدخل السياسة والاقتصاد في كل تفاصيل حياتنا، فوباء أو فيروس مثل كورونا يحتاج إلى شفافيةٍ مطلقةٍ للحد من انتشاره، وهذه الشفافية معدومة في دول الأنظمة العسكرية والفاشية، ليس فقط لدى الأنظمة، بل لدى الشعوب التي تخاف حتى من أمراضها وتخشى الإفصاح عنها، لأنها ببساطة تخشى من التنمّر والإهمال، فهي تدرك، في قرارتها، أنها لن تحظى بالرعاية المطلوبة، وربما تعاقب على إعلانها مرضها، فتتكتم وتصمت، ما يفوّت فرصة كبيرة لمعرفة مدى انتشار الفيروس وأسباب انتشاره، وتعيق محاولات الوصول إلى علاج نهائي له، وهو ما ترحب به سوق الاستهلاك وشركاته العابرة للدول التي تستغل أسوأ الظروف الإنسانية لزيادة أرباحها!
كارثتنا الكبيرة تكمن في البشرية بحد ذاتها، البشرية التي تسير بخطواتٍ ثابتة نحو فنائها وتدمير كوكبها، بسبب الرغبة الهائلة في السيطرة، وتملك القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تستبيح كل شيء، وتستغل كل ما يمكنها استغلاله، ومن يدري قد يكون فيروس كورونا الجديد أحد الأمراض المصنّعة في حروب البشرية غير المعلنة، أو قد يكون انتقاماً من الطبيعة على تنمّر البشر.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.