عن الوباء والاستبداد

عن الوباء والاستبداد

16 مارس 2020
+ الخط -
ظهرت أعراض وباء كورونا في أوائل شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي على أفراد قليلين في مدينة يوهان الصينية. ومع تزايد الإصابات، كتب طبيب صيني، في 30 الشهر نفسه، على مدونةٍ، يحذّر زملاءه من "مرض غامض"، بعد أن عزل المستشفى المحلي الذي يعمل فيه سبعة مرضى مصابين في الحجر الصحي، ليفاجأ الطبيب باستدعاء الشرطة له، والتحقيق معه بتهمة "نشر تعليقات كاذبة"، وإرغامه على التوقيع على إقرارٍ بارتكاب فعل "غير قانوني". أما الرئيس الصيني فقد علم بوجود الفيروس في 7 يناير/كانون الثاني، على أقل تقدير، حيث وقّع مذكّرة يطالب فيها ببذل مزيد من الجهد لمكافحة المرض. ولكنه لم يخاطب الشعب الصيني بخصوص المرض وخطورته إلا في 20 يناير، أو بعد أسبوعين على الأقل من معرفته به، وقبل يومين من إعلان السلطات الصينية عزل يوهان ومدن أخرى بالكامل.
ربما ساهم تأخر رد فعل الحكومة الصينية في تحور الفيروس، ونشره بين ملايين الناس داخل الصين وخارجها، وهو ما أثار غضب صينيين كثيرين من ناحية، وبات يمثل تهديدا لصحة البلايين في العالم من ناحية أخرى، ويهدّد بدخول الاقتصاد العالمي في أزمة خطيرة، ناهيك عن نشر الذعر والقلق عالميا، وتعطل الحياة في دول كثيرة.
للأسف، لم تختلف ردود فعل النظام الصيني الاستبدادي عن ردود أفعال حكومات استبدادية أخرى كإيران، بل تكرّر في دول ديمقراطية كإيطاليا وأميركا. في إيران، أعلن عن أول حالتي إصابة في 19 فبراير/ شباط، وفي اليوم نفسه، أعلن عن وفاة الحالتين، ما أثار شكوكا عن سرعة اكتشاف المرض، والاعتراف بوجوده وانتشاره، خصوصا أن مدينة قم، ذات الأهمية الدينية، مثلت أحد أهم مراكز انتشاره. تأكدت الشكوك في 24 فبراير، بعد أن أعلنت وزارة الصحة الإيرانية أن عدد المرضى وصل إلى 64، وأن عدد من توفوا بسبب الفيروس أصبح 12. حيث ذكر أحد أعضاء البرلمان عن قم لوكالة الأنباء الإيرانية أن عدد من تم وضعهم 
تحت الحجر الصحي في مدينته أكثر من 250، وأن عدد الوفيات بلغ الخمسين.
وسرعان ما تحوّلت إيران إلى بؤرة رئيسية لنشر المرض في المنطقة، ما دفع جيرانها إلى وقف الطيران معها، كما أعلنت إيران في 12 مارس/ آذار لجوءها لصندوق النقد الدولي، لأول مرة منذ ستين عاما، لطلب قرض مقداره خمسة مليارات دولار لمواجهة الوباء، بعد أن اكتشفت أكثر من ألف إصابة في اليوم السابق، ليبلغ عدد المصابين أكثر من عشرة آلاف وعدد المتوفين أكثر من 400.
في إيطاليا، تم اكتشاف أول إصابتين بالمرض لدى سائحين صينيين في أواخر يناير، وساعتها عبر رئيس الوزراء الإيطالي، جوسيبي كونتي، عن ثقته الكاملة في النظام الصحي والاحتياطات المتخذة. ولكن لم تقم الحكومة الإيطالية، على ما يبدو، بما يكفي، لتتبع المرض ومن تواصل معهم المصابون، خوفا من تأثير ذلك على حركة السياحة والاقتصاد، لتفاجأ إيطاليا في منتصف فبراير بأول حالة إصابة لمواطن إيطالي لم يغادر البلد أخيرا، وكان هذا مؤشرا على انتشار المرض في أوساط الإيطاليين أنفسهم، حتى باتت إيطاليا أخطر بؤر 
المرض في أوروبا.
وأصرّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، طوال شهر فبراير على التقليل من خطورة المرض. بل تنبأ بتراجع انتشاره مع اقتراب فصل الربيع، على الرغم من معارضة مستشاريه الصحيين تلك النظرية. واستمر به الحال حتى وقعت أولى حالات الوفاة في الولايات المتحدة في 29 فبراير، وبدأت مؤشّرات أسواق المال في التراجع، ليفاجأ الأميركيون بانتشار المرض، وبوجود مشكلاتٍ تعيق إجراء اختبارات كشف الفيروس، بسبب عدم توفر أعداد كافية من المختبرات المخوّلة إجراء التحاليل، بالإضافة إلى مخاوف من ندرة بعض مكوناتها الكيميائية.
ويبدو الوضع في بلد كمصر أكثر تعقيدا، حيث لم تعلن الحكومة المصرية إلا عن إصابة عشرات الإصابات بالفيروس، في حين أعلنت دول، كفرنسا والولايات المتحدة واليونان وكندا، عن إصابة عشرات من مواطنيها العائدين من مصر خلال الأسابيع الأخيرة بالمرض. وتقول تقارير صحافية غربية إن الحكومة المصرية تنشط في اختبار المرض في المدن السياحية كالأقصر، ولكنها لا تخضع إلا عددا قليلا من الأفراد (كعينة صغيرة من نزلاء أحد الفنادق) لاختبار كشف الفيروس، وتترك الحياة تسير كعادتها، خوفا من التأثير على السياحة. هذا في وقتٍ تزداد فيه تقارير الصحف الدولية عن ضعف سياسة الحكومة المصرية في مواجهة الفيروس.
ما يجمع البلدان السابقة هو تلكؤ حكوماتها في مواجهة الوباء القاتل لأسباب سياسية، كالخوف على شعبيتها، والخوف من تبعات القرار على الأوضاع الاقتصادية بغض النظر عن صحة مواطنيها. وتزداد المشكلة في الدول الاستبدادية خاصة الفقيرة منها. ففي الولايات المتحدة وإيطاليا قد تساعد البنية الصحية والأوضاع الاقتصادية القائمة على التعامل مع المرض وتحدياته بشكل أسرع. وفي دولة كالصين، وغيرها من الدول الاستبدادية الثرية، قد تساعد الفوائض المالية والمركزية الحكومية في مواجهة مع المرض من خلال بناء مستشفيات جديدة، وإخضاع نسبة كبيرة من السكان للعزل الصحي، وتوفير الاختبارات المطلوبة. وتتعقد المشكلة
 في بلدانٍ استبدادية فقيرة، كإيران ومصر، حيث لا تتوفر القدرات السياسية، ولا الموارد المالية، لمواجهة المرض بشكل سريع والحدّ من تفشيه.
كشف الوباء أيضا عن التفكّك الدولي الذي نعيشه، حيث تواجه كل دولةٍ المرض منفردة، فيما عدا الاستعانة ببعض خبرات منظمة الصحة العالمية. حيث بدت الدول أكثر اعتمادا على حكوماتها مقارنة بالمنظمات الدولية الرسمية والأهلية. وهو توجّه في تزايد دوليا على مختلف الأصعدة خلال العقدين الأخيرين، تزامنا مع تراجع الديمقراطية نفسها، فالمرض الذي تفشى من دولة واحدة لبقية دول العالم يثبت حاجة تلك الدول للتعاون في مواجهته، بعد أن انهارت حدودها أمامه. وهو ما لم يحدث، لأنه انتشر في عالمٍ يميل بشكل متزايد نحو الديكتاتورية والتفكّك. حتى أن ترامب، رئيس أقوى دولة ديمقراطية في العالم، وصف المرض "بفيروس أجنبي"، معلنا عن رغبته في إغلاق حدود بلاده الجنوبية مع المكسيك، للحد من انتشار المرض، في استخدام سياسي واضح للوباء، من أجل تطبيق خططه للحد من تدفق المهاجرين واللاجئين، عبر حدود بلاده الجنوبية، ولتعبئة أنصاره سياسيا.
على المنوال ذاته، تعالت دعوات عنصرية في دول مختلفة ضد الأقليات ذات الأصول الصينية والآسيوية، وكأنهم يرتبطون بالفيروس. كما تعالت صيحات غربية للحد من الاعتماد التجاري والصناعي على الصين والدول الأجنبية، كالهند وغيرها، بعد أن كشفت الأزمة مدى اعتماد العالم على الصين في صناعاتٍ كالإلكترونيات والسيارات والأنسجة، وعلى دولة كالهند في مجال العقاقير الطبية. حيث ارتفعت مطالب بفك الارتباط للحد من مدى انكشاف الدول الغربية للأزمات الاقتصادية التي قد تتعرّض لها الدول، وتؤدّي إلى تباطؤ سلاسل الإنتاج الدولية. وذلك على الرغم من أن المشكلة لا تنحصر في تراجع سلاسل الإنتاج، ولكنها ترتبط أيضا بتراجع الاستهلاك، فمن شأن توقف المصانع في آسيا، أو انهيار أسواق المال والاقتصادات الدولية، تراجع الإنتاج والاستهلاك الدوليين معا، وانكماش الأسواق، ما سيضر بالشركات الكبرى، والتي تتركز في الغرب بالأساس.
في عصر صعود الديكتاتوريات واليمين المتشدّد و"بريكست"، يبدو العالم مختطفا من حكومات استبدادية ويمينية متشدّدة، مشغولة بتقوية قبضتها على الحكم، ومراكمة ثروات نخبها الاقتصادية، ولو على حساب صحة شعوبها نفسها، ناهيك عن صحة شعوب الدول الأجنبية والفقيرة.