إنهم يروّجون التشابه

إنهم يروّجون التشابه

01 فبراير 2020

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -
على مدخل صالون تجميل شهير في القاهرة، كتب، بتوقيع صاحب الصالون: "حكمة المرأة هي جمالها، وجمال الرجل هو حكمته". طبيعي أن يشيد صاحب صالون تجميل بجمال المرأة، فهو جزءٌ من الترويج الإعلاني لعمله. ولكن في العبارة السابقة من التمييز بين الرجل والمرأة ما يثير الدهشة، فهي تدعو إلى إعلاء شأن جمال الوجه والجسد في المرأة على أي شأنٍ آخر، فهو ما يعطي لصفاتها الأخرى القيمة والأهمية، فإذا لم تتمتع المرأة بجمال الجسد والوجه فكل صفاتها الأخرى، والتي قد تكون نادرةً واستثنائيةً، لا معنى لها، ولا تشكل شيئا بالنسبة للرجل. والجمال المقصود في العبارة هو الذي يشبه جمال العارضات، سواء بشكل أجسادهن أو ملامح وجوههن أو تسريحاتهن أو ماركات ملابسهن، أي المقاييس الجمالية التي فرضتها ثقافة الاستهلاك الرأسمالية، في صيغها الإعلانية، حيث ترويج منتجات التجميل، وتغيير الشكل العام للجسد والوجه، ليتناسب مع مقياس العولمة لجمال المرأة. أما الرجل، أيضا حسب العبارة السابقة، فلا توجد مقاييس لجمال ملامحه. الحكمة هي ما تعطيه جماله، فشكل الرجل لا يهم، حتى لو كان بالغ الدمامة، ما دام يتمتع بصفاتٍ شخصيةٍ جيدة! وهذا يذكّر بمثل شعبي مصري "الراجل ما يعيبو غير جيبو"، حيث تُحمل عيوب الرجل إلى فقره، وتُحال الصفات الجيدة إلى غناه. لا أجد فرقا كبيرا بين عبارة المصفّف والمثل الشعبي سوى في أن صاحب صالون التجميل يخاطب شريحةً معينةً من المجتمع (جيوبها عمرانة) دائما، والحكمة التي يقصدها هي الصفة البديلة للغنى المتحقق أصلا.
حسنا، أنا أرتاد أحيانا صالون التجميل ذاك. أحبّ أن أبدو جميلة، وأحبّ أن يلتفت الرجال إلي، ويثنوا على شكلي وجمالي. وأكاد أجزم أنه ما من امرأة إلا وتحب لفت الانتباه وكلمات الإطراء، فالغواية من صفات الأنثى، والشكل من أدوات الغواية، على أنه تحوّل في عصرنا الحديث إلى الأداة الوحيدة، أو أرادوا له أن يكون كذلك، فبعد أن كان العقل وذكاء الخيال الأداتين الأساسيتين في لعبة الإغواء، أصبح الجمال الخارجي، بمقاييسه الحديثة، هو الأداة. لم يعد الذكاء مطلوبا، بل ثمّة ترويج أن الرجال قد يُصادقون المرأة الذكية والمثقفة، ولا يرتبطون بها عاطفيا، فهي مُتعبة. وثمة ترويج آخر لفكرة أن من النادر أن يجتمع الجمال والذكاء في امرأة، فالمرأة إما ذكية وقليلة الجمال أو متواضعة الذكاء وجميلة، وهو ما يتم ترويجُه بوصفه مطلب الرجل: امرأة جميلة وقليلة الذكاء ستكون مطيعةً وغير متعبة، يسهل التعامل معها بأقل المشكلات الممكنة، إذ ستكون مشغولةً بجمالها، وعلى الرجل الحكيم أن يساعدها على هذا الانشغال!
تُعلي ثقافة الاستهلاك من شأن الشكل الخارجي لترويج منتجاته، وتضع مقياسا محدّدا لملامح الوجه والوزن المثالي وخطوط الكسم العام لجسم المرأة، ويبدأ التنمّر على من لا يقارب شكلها تلك المقاييس، التنمّر الذكوري الذي تسانده ميديا تروّج الاستهلاك، وهو ما استدعى انتشار طب التجميل الذي أصبح من أكثر الاختصاصات طلبا لدى دارسي الطب، خصوصا في بلادنا العربية، حيث تزدحم عيادات أطباء التجميل بالراغبات بتغيير أشكالهن وملامح وجوههن وأشكال أجسادهن. لست ضد ما يحسّن المظهر العام، خصوصا مع التقدّم في العمر، حين يخفتُ الرونق الطبيعي للجلد والبشرة، أو مع العمليات التي تقلّل من الدهون المتراكمة على الجسد. أستخدم ما يساعدني على تجنّب ملامح التقدّم في العمر. إلا أن ما يحدُث للمدمنات على التجميل بات مخيفا، لا من حيث التشابه الصادم في شكل الوجوه فقط، بل في التشويه الذي يرونه جميلا: الشفاه المنفوخة والخدود المرتفعة، والوجه الخالي من أي تعبير، والمصقول كالبلور من فرط الحقن والشدّ، حيث يشعر الناظر إلى هذا الوجه أنه أمام تمثالٍ بارد وجامد، لا تظهر عليه أية ردّة فعل أو انفعال، سلبي أم إيجابي، في أثناء الحديث. ولا شيء يعادل بشاعة الحياد في ملامح من تُحادثه، فملامح الوجه انعكاس لما هي عليه الروح، لشرّها وطيبها وصدقها وخداعها وذكائها، بحُزنها وفرحها وخوفها وقلقها. حين تختفي تعابير الملامح أو تتغيّر، فإن جزءا مهما من الشخصية يختفي معها، وهو ما ينفي جوهر هذه العمليات: التجميل، فالجمال مرتبطٌ بالشخصية. حين نفقد التعبير عن شخصياتنا الحقيقية على وجوهنا نفقد جمالنا الحقيقي والأصيل، والذي تملكه الكائنات الحيّة جميعا، فالجمال الحقيقي في داخلنا أولا، ومنه يمكننا رؤية الجمال في الآخرين.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.