ماذا يجري في لبنان؟

ماذا يجري في لبنان؟

28 يناير 2020

(راوية زنتوت)

+ الخط -
ما هذا السؤال يا صديقتي؟ من أين خرجتِ لي هذا الصباح، وما الذي ذكّرك بي بعد طول انقطاع؟ اذهبي إلى شبكة العنكبوت. المواقع لا تُحصى، وكثرٌ من أصدقائنا ومواطنينا يروون يومياتهم وانطباعاتهم ويكتبون تعليقاتهم ومقالاتهم عمّا يجري هناك. هناك؟ أجل، هناك ولو كنتُ رهينةً "هنا"، لأني، في الأيام الأخيرة، شعرتُ بالإنهاك. يجب أن يتحوّل الهنا إلى هناك، ولو لأيام، وإلا متُّ، فقعتُ، تدمّرتُ. ما تلوكه شاشات التلفزيون من بروباغندا رخيصة، وتبصقه في وجهي، بات لا يُحتمل. لذا تراني أنتقل إلى محطاتٍ نائيةٍ تبدو فيها مشكلات الناس بحجم الناس، وحيث الحياة تساوي حياة. أحتاج أن أنفصل، يا صديقتي، لأن الرئتين سُدّتا تماما، والقلب عام في قاذوراته، الأحشاء تقطّعت واللسان يباس. حتى العينان فقدتا قدرتهما على التبصّر، وأصيبتا بعمى الألوان.
لا تسألوا عنا، يا أصدقاء، عافاكم الله، وابتعدوا قدر ما استطعتم إلى ذلك سبيلا، طالما أنتم في البعاد تمتلكون نعمة الغياب. امضوا ولا تلتفتوا إلى الوراء، لأنّ ما هو في الوراء قد زال وطُمر وصار من الماضي السحيق. واعلموا أنّ ما كان لا يستحقّ الذكرى، ولا يستحق حتى الكراهية والحقد والمحاسبة والانتقام. لذا لا تتذكّروه، بل أهيلوا عليه التراب، وقفوا وقفة حزنٍ فوق قبره، وارموا ورودا، وقولوا شعرا، وابكوا والطموا إلى أن تجفّ المآقي وتتقطّع القلوب. لقد انتهى هذا كلّه، ومن مات قد مات وترمّد، ولن يحيا من جديد، ومن صُلب تعذّب مجّانا وما خلّص أحدا، لم يُكتب له ثوابٌ ولن يشتري دمَه أيُّ إله.. حتى وأنا في الـ هناك الذي أخترعه ليلاً من لا شيء، وفي الـ هنا الذي تغمرني مياهه الجارفة نهارًا، لا أشعر بالغضب، بقدر ما هو السأم والاعتلال، وتلك الكرة التي من حديد، عند أعلى المعدة، ووزنها الذي يُثقل الرئتين ويمنعهما من التمدّد والانكماش.
هذا ليس ضيقا في النَّفَس، قال الطبيب، وليس عطبا في جهاز الشهيق والزفير، إنه حركة غير منتظمة لقطعتي كاوتشوك تسخنان وتبردان بفعل التلوث والدخان. لا أشعر بأيّ ألم، قلتُ، ولا أشعر بندم، ولا أشعر بخيبةٍ، ولا ينتابني غضبٌ أو شعورٌ من أي نوعٍ كان. بل هو الخواء المتجدّد الذي ينخر العظام، وذاك القحط البارد اللعين الذي يقطّع الأوصال. هزّ الطبيب رأسه طويلا، قبل أن يفطن لكونه الطبيب، ثم دوّن وصيّتَه وأرسلني إلى الطريق.
وعلى عكس ما اعتقد الجميع، خرجتُ وأنا لا أدري من كان المتكلّم فيّ وأنا أقعي بانتظار أن يتراكم الركام. وعلى عكس ما ظنّوه بي، لم يتخلّ عني أحد. والذين ساروا معي قدّموا أكتافهم وعصيّهم، وأطعموني من زادهم وسقوني ماءهم، وبرغم ما قاسوه لم يتراجعوا، ولم يكلّوا، ولم ييأسوا. حتى عندما فقدوا أعينهم وأطرافهم. لقد استمرّوا يتقدّمون ويهتفون، دائسين الأعمارَ التي صرفناها انتظارا، والأرضَ التي لم تسقنا إلا الحنظل، والضباعَ التي اجتمعت علينا وتكاثرت وراحت تعضض فينا وتنهش حتى سقط اللحمُ وتكسّرت العظام.
الحزن ليس ثوريا، تقولين؟ أجل، أنتِ على حق. الحزن استسلام؟ أجل، وأنا أعترف بتعبي واختناقي جرّاء وجود كرة الحديد الصدئة تلك في الحنجرة وفوق اللّسان. فلنعدّ سوية إذاً: 1، 2، 10، 100... ياه، 105 أيام على بدء الثورة في لبنان. ومع ذلك، ما زالت السماء مكفهرّة، والموج عاتيا، والطاعون ملحّا يدقّ على الأبواب. لقد أقفلنا كل الأسوار، يا صديقتي، ومنعنا الخروجَ والدخولَ، وأنزلنا فوق مدننا غلالةَ ليلٍ طويل لن ينجو منه أحدٌ، لا معتلّين ولا أصحّاء.

دلالات

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"