في تذكّر جمعة الغضب المصرية

في تذكّر جمعة الغضب المصرية

28 يناير 2020

حشود من متظاهري "جمعة الغضب" في القاهرة (28/1/2011/Getty)

+ الخط -
مَنْ يصدّق أن الثورة المصرية وصلت، في ذكراها التاسعة، إلى هذا الواقع الأليم والمستقبل الضبابي؛ وأن شركاءها صاروا متفرّقين بلا أمل يجمعهم؟ الثورة التي كان من أبرز وقائعها "جمعة الغضب" التي تمرّ ذكراها اليوم الثلاثاء في هدوء لا يتناسب مع عظمة الحدث وجلاله. وثمّة مرويات أليمة عن ثلاثة شهداء مجهولين سقطوا في تلك الجمعة، يحسُن أن تُذكّر الثوريين بوحدتهم المُفتقدة؛ ثم اتخاذ القرارات التي تليق بخطورة الوضع في مصر. سيدة تجاوز عمرها 61 عاماً، لم تعد تستطيع السير ما لم تساعدها يد أحد أحفادها؛ أو يعطف عليها عابرٌ في الطريق. ومع ذلك، كانت الشهيدة زينب عبد القاصد عليوة تعيِّر أبناءها الثلاثة بأنهم لن يجدوا من بعدها مَنْ يخدمهم أو حتى "يسأل فيهم". يوم "جمعة الغضب" شاهدتِ الضحايا على شاشة فضائية؛ فلم تطق الصبر أكثر، وقامتْ بعد أن قالت: "حرام الشباب إللي بتموت دي ودمها بيروح هدر..."، ثم ادّعت أنها ذاهبة لشراء خبز.
نشأتْ في حيّ منشية ناصر، القاهري الفقير، لم تتلقَّ تعليماً على الإطلاق، إلا أنها كانت تملك نخوة ومروءة كافيتين لأن تأخذ بيد حفيدها عُمر لتبحث عن المظاهرات، ثم تفرح لما وجدتْ هذه المظاهرات قد وصلت إلى حيّها؛ فراحت تحضّ الناس على المشاركة، وتقول: "الشباب دول بيتظاهروا عشان حالة الغلاء إللي في البلد؛ وعشان حسني مبارك مُستولي على كل حاجة
في البلد وعاوز يُورثها لأولاده".
غفلةً أبصر حفيدُها المتظاهرين يهرولون من أمام سيارتين طائشتين للأمن المركزي، فجذب يدها بعيداً، فلم تستجب. ومع اقتراب إحداهما، ترك الصبي يد جدّته، لتدهسها السيارة، مُحدثةً نزفاً داخلياً في رأسها وكسراً في الجمجمة يؤدّيان إلى لقائها الله وحيدة، قرابة فجر السبت 29 من يناير/ كانون الثاني 2011 في مستشفى الزهراء الجامعي، التابع لكلية طب الأزهر، بعد أن منع الأطباء أبناءها من المبيت معها. اتجه ابنها الأوسط شريف إلى قسم شرطة الوايلي، محرراً محضراً ضد مبارك ووزير داخليته آنذاك حبيب العادلي، ثم النائب العام بعد سنة من الواقعة، ليُخبَر، في النهاية، بحفظ البلاغات "لعدم معرفة القاتل"!
أحمد هلال عبدالحفيظ بشير شاب أسمر بلون طمي النيل؛ ولذلك اشتهر بـ"كوارشي" (لاعب كرة القدم الغاني). وُلِدَ في قرية قورتة النوبية (محافظة أسوان) لأب كفيف وأم ترعاهما مع أربع بنات. لما كبر الابن واستوى، عمل سائقاً خاصاً بدبلوم التجارة، واستوطنت الأسرة شارع أحمد زكي المطل على كورنيش المعادي، والواصل إلى قرب ميدان التحرير. ولأنه الطريق الأكثر تجمعاً لثوار المعادي، تمركزت الشرطة فوق أسطح بعض عمارات الشارع، وخصوصاً
 فوق قسم شرطة المعادي القريب، وأخذ القنّاصة يمطرون المتظاهرين بالرصاص، لمنعهم من الذهاب إلى ميدان التحرير.
لم يطق عبد الحفيظ (24 عاماً) الموقف، وأخذته الحميّة، إذ كيف يستشهد الشباب والفتيات ويظل في البيت، فقال لأمه: "هأنزل أشوف إيه اللى بيحصل، ولو مت خللي بالك من البنات". حمل الشاب الثوري أربعة من الشهداء بين يديه، باحثاً عن مستشفى تقبلهم، ما استفز القناص فأصابه برصاصة اخترقت قفصه الصدري وهشّمته. بعد نزوله، قلقتْ أمه وشقيقاته فهرولن إلى الشارع يسعفن المصابين، حتى أخبرهن أحدهم بأنه استشهد، فاستوثقت أمه من أنه يقصد ابنها بوصفه ملابسه. وفي مستشفى الأمل نصحهن الطبيب بتسلم جثمانه، بدلاً من "البهدلة" (على حد قوله).
دُفِنَ عبد الحفيظ في القاهرة، وعادت العائلة المكلومة إلى النوبة، ليعدها محافظ أسوان بشقة في 
حي الصداقة الجديد في مايو/ أيار 2011؛ ثم تنفي الأم لاحقاً تسلمها شيئاً من المحافظ مهما كان صغيراً. أما حيّ المعادي، فلم يرضه انتشار صور عبد الحفيظ وسبعة آخرين من الشهداء فوق أعمدة إنارة الشارع، فأزال الصور، بما فيها صورة شهيدة اليوم نفسه، هديل عادل سليمان، في 2014، بحجة التطوير الذي لم يحدث في الشارع.
إسلام محمد صالح لم يتجاوز 15 عاماً. كان متفوقاً في مدرسته الخاصة. في يوم "جمعة الغضب" أخذه والده لصلاة العصر في مسجد مجاور لـ"قسم شرطة أمبابة"، ولم يكن يعرف ماذا ينتظرهما؛ إذ كان صواب ضباط القسم قد طاش، حتى إنهم أخذوا يُمطرون العابرين في الشوارع القريبة للقسم بالرصاص بلا ذنبٍ جنوه، وفيما كان الأب يلبس حذاءه أمام المسجد، اخترقت الرصاصة ظهر ابنه لتخرج من بطنه. وفي مستشفى أمبابة العام، فشل الأطباء في إنقاذ الطفل بعد ثلاث جراحات عاجلة، ليلقى الله بعد ثلاثة أيام، وأصرّت الجهات المسؤولة بعد 22 يوماً من دفنه على استخراج جثمانه، للتأكّد من أن الرصاصة القاتلة "أميرية" تابعة للداخلية، ثم حُفظت القضية.
كيف يمكن لشركاءَ الثورة نسيان هذه الدماء وغيرها؟ أم أن الشهداء كثروا في مصر فثُقِبتِ الذاكرة؟ وهل من أمل باقٍ في أن يفيق الثوار ويتجمعوا؟