2020 سنة كورونا والانحدار البشري

2020 سنة كورونا والانحدار البشري

26 ديسمبر 2020
+ الخط -

يجري احتساب النصف الثاني من ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي بأنه تاريخ انطلاق فيروس كوفيد 19 من مدينة ووهان في الصين، بينما يقترن بدء الجائحة بتاريخ أقرب من ذلك بشهرين في مناطق مختلفة من العالم، منها منطقتنا الشرق أوسطية التي وصلت إليها طلائع الوباء في فبراير/ شباط. وخلال أقل من عام، جرى التكيف مع الوباء ببطء، والتعامل شبه القدري مع وقوعه، فإذا كان ما يحدث على صعيد الأضرار والخسائر هو بمنزلة حرب، إلا أن هذه الحرب عالمية تطاول الجميع، بما يمنح شعورا بالعدالة. وعادت مدن عديدة في المنطقة إلى سابق عهدها قبل عقود، حين كانت شوارعها تنام قبل العاشرة مساء. وإنْ كان الأمر يجعل أبناء العواصم والمدن الكبيرة يخضعون لما يشبه نظام منع تجول، فلسنا وحدنا، وهذا هو عزاء الجميع وشعارهم الضمني. لقد حشر الفيروس البشرية في ملعبٍ فسيح واحد، واستعادت البشرية، في النصف الأول من العام الموشك على الانصراف، المشاعر بروابط جمعية تضم البشر، بصرف النظر عن الفوارق بينهم. وتجدّد الحديث عن المصير الإنساني المشترك، غير أن هذا الإطار الجامع لم يلبث أن تفكّك، فمع الصمود في استيعاب وقوع الضحايا، ومع بقاء النظام الصحي يعمل في غالبية الدول، أيا كانت درجة كفاءته، ومع تعامل عدد من الدول بصورة متكتّمة مع الوباء، ومع اشتداد حمّى البحث عن لقاح وعلاج، والسعي إلى كسب قصب سباق علمي وتقني واستثماري، فقد أخذ العالم يعود إلى حياة مألوفة شبه طبيعية، على الرغم من الإغلاقات وتقييد حركة السفر.

انحسرت موجة التضامن الجماعي، وزادت معها نزعات إغلاق الحدود في وجوه الآخرين

كان النجاح محدودا وقصيرا، واتسم بتنظيم الأمم المتحدة منتدياتٍ هدفها تنظيم الرد العالمي على الجائحة، وانتهى إلى عقد قمة في ديسمبر/ كانون الأول الجاري بعد طول تسويف. ذلك أن النسبة الأكبر من قادة العالم يدركون أنهم يتعاملون مع وباء مُعدِ سريع الانتشار، وعلى درجة من الفتك، وليس مع مرض خطير. ولهذا وخشية هبوب رياح العدوى، وغرق دول ومجتمعات تحت وطأة انتشار وباءٍ غير قابل للسيطرة عليه، فقد اضطرّوا إلى التلاقي ما بينهم. ولقد تحدّث خلال هذا العام أكثر من مسؤول في العالم عن أن الوباء قد أفلت من نطاق السيطرة عليه. ولهذا، وجد زعماء دول عديدة أنفسهم مضطرين للتمشّي مع التضامن العالمي، حفاظا على أنفسهم أولا، ثم على أمل أن تجد بلدانهم عونا لها في موجات التضامن، وتنظيم الردود الجماعية. وقد كان من شأن الوباء أن خفّض حدّة التوترات في ليبيا وفي سورية وفي العراق وفي قطاع غزة. وأضعف الوباء موجة تجدّد الربيع العربي في العراق ولبنان، وذلك مع مخاوف المحتجّين من التأثر بالوباء. وبهذا، أسهمت كورونا في بقاء تكلس الأوضاع إلى جانب تشتيت انتباه الجمهور بين الوقاية من الوباء وتدبير الاحتياجات المعيشية والخشية من تزعزع الوضع الاقتصادي لقطاعاتٍ بعينها، وقد تزعزع، وتضم نسبةً كبيرة من المواطنين (بدأت بقطاع السياحة والسفر ولم تتوقف عنده).

والأكثر لفتا للانتباه أن موجة التضامن الجماعي قد انحسرت، وزادت معها نزعات إغلاق الحدود في وجوه الآخرين، حتى لو لم يكونوا لاجئين، واتخذ التباعد الفردي عن الغير صيغة جماعيةً بالانعزال والتوجّس من الآخرين، فمن دواعي الغرابة حقا أن تشهد فرنسا أسوأ أزماتها الداخلية المتعلقة بالتعايش والتواصل بين المكونات الاجتماعية والثقافية خلال هذه السنة بالذات، سنة كورونا، وذلك بدلا من أن يكون الاهتمام الأكبر للسلطات متركّزا في تطويق الوباء، ومعالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية، والعمل على إنتاج لقاح ودواء إن أمكن.

كما ظهرت العيوب والأمراض الاجتماعية والثقافية في الغرب الرأسمالي، فقد ظهر مثلها في العالم الذي يدّعي أنه يناوئ الرأسمالية، ذات المنحى الليبرالي

وفي الولايات المتحدة، لم يفلح مطوّر العقارات، الملياردير دونالد ترامب، في انتزاع ولاية ثانية يمكث خلالها في البيت الأبيض، بيد أنه حظي بتصويت نحو 74 مليون أميركي له، وهو أعلى رقم يحوزه متنافس خاسر في الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولم يكلف ترامب نفسه عناء إعداد برنامج انتخابي أو بلورة رؤية لأميركا والعالم، واكتفى بإطلاق الوعود بالنصر والفوز والإشاحة عن أبناء الأقليات والملوّنين، وإغفال الحديث عن النساء أو الشرائح الضعيفة من المجتمع. وقد حدث ذلك الإقبال، بينما كان الوباء ينتشر هناك، إذ أصاب نحو 19 مليون أميركي، وأودى بأزيد من 334 ألف ضحية، فضلاً عن خسارة ملايين الوظائف.

وقبل تحقيقه هذه النتائج، كانت أميركا مسرحا لاضطراباتٍ عنيفة، إثر جريمةٍ عنصريةٍ، أودت بشاب أسود، جورج فلويد.. وقد تبين أن النزعات العنصرية تستشري في صفوف الشرطة الأميركية، وقبل أن يحل ترامب في البيت الأبيض. وخلال أشهر مايو/ أيار ويونيو/ حزيران ويوليو/ تموز، بدت الولايات المتحدة وكأنها تتفكّك، وذلك بعدما اكتشف كثرٌ من الأميركيين أن هناك القليل مما يجمعهم، غير أن جهد ترامب، ومن لفّ لفّه، كان منصبّا، في تلك الأثناء، على السعي إلى ولاية ثانية. وبينما حاز هو على أرقام عالية، إلا أن منافسه الديمقراطي الفائز، جو بايدن، نال بدوره أعلى عدد أصوات يناله فائز في انتخابات الرئاسة الأميركية (أكثر من 80 مليون صوت)، ما يدلل، على أي حال، على الانقسام الذي يستشري في المجتمع الأميركي، والذي زادت شدّته وحدّته في عهد ترامب.

حشر الفيروس البشرية في ملعبٍ فسيح واحد، واستعادت البشرية، في النصف الاول من العام، المشاعر بروابط جمعية تضم البشر

وكما ظهرت العيوب والأمراض الاجتماعية والثقافية في الغرب الرأسمالي، فقد ظهر مثلها في العالم الذي يدّعي أنه يناوئ الرأسمالية، ذات المنحى الليبرالي، كحال روسيا التي تتفنن قيادتها في التنكيل بالمعارضة. وقد جاءت حادثة تسميم المحامي أليكسي نافالني، كاشفة عن أوضاع حقوق الإنسان في هذا البلد، ولم يؤثر انتشار الوباء في وتيرة الكبت. ولكن الرئيس فلاديمير بوتين وجد أن الظرف مناسبٌ لاستصدار تشريعٍ يمنحه، هو وأفراد عائلته، حصانةً مطلقةً بعد انتهاء حكمه. وتشمل الحصانة أمتعة الرئيس ومركباته وكل متعلقاته. وقد نجحت روسيا في إنتاج لقاحيْن، لكن جهاتٍ محايدة (منظمة الصحة العالمية وغيرها) لم تحسم بعد في نجاعتهما، غير أن عدد المصابين وعدد الضحايا قد تضاعف في روسيا، منذ الإعلان عن اللقاحيْن أواخر أغسطس/ آب الماضي.

وفي إيران، لا يصرف انتشار الوباء قادة هذا البلد عن جهادهم الثوري خارج الحدود. ومن غير انشغال بإنتاج لقاح، أو تحسين مستوى الأبحاث الطبية، فيما جرى الحفاظ على أعلى المعدلات الإعلامية في الإعدامات التي ترتكب بحق معارضين سياسيين، وليس فقط ضد جانين مدانين، وتتنافس إيران في ذلك مع الصين التي تتكتم عن كل شيء. وإذ لا يتسع المجال لعرض المزيد، فإن صفقة ترامب نتنياهو قد ولدت في مطلع العام 2020، وأثمرت بعدئذ مزيدا من السلوك العنصري من واشنطن وتل أبيب تجاه الفلسطينيين وحقوقهم في أرضهم، وتمت مكافأة دول الاحتلال على ذلك بتطبيع عربي جديد معها.