المسألة الفكرية في الانتخابات الكندية

المسألة الفكرية في الانتخابات الكندية

10 سبتمبر 2019

في أونتاريو بكندا بعد الاعتداء على مسجدي نيوزيلندا (15/3/2019/Getty)

+ الخط -
مع مرور الوقت، يعود اليمين إلى التصعيد في كندا مجدّداً ضد المسلمين، وتعود أصوات التحريض عليهم، عبر قوانين مقاطعة كيبيك، أو مفاهيم يطرحها ساسةٌ وحملات إعلامية تعزّز الكراهية، وغالبية البناء السياسي الكندي لا تكترث بهذه الرسائل، ويتراجع الحزب الليبرالي عن الحقوق المدنية للمسلمين، فالمحافظون قد يتقدّمون، بناءً على قوانين مواجهة المواطنين المسلمين والمهاجرين. وهنا نقاط مهمة في هذا المسار الذي لا يزال المسلمون الكنديون في نفقه الأول:
أولا، اتضح اليوم أن استخدام مشجب اللوبي الموالي لإسرائيل، لتبرير محاصرة المسلمين، كقضية إسقاط الحزب الليبرالي ترشيح المحامي حسن غية، غير صحيح، ولو استُدعيَ للتضليل، فالقرار كان ضمن سياسة رئيسية للحزب في كيبيك، ويتأكد هذا الأمر حين طُلب من غِيّة بعد فوزه التنازل والانسحاب، لحسابات الحزب الداخلية، وهناك لوبي وضغط صحيح، ولكن التبرير الدائم به، يروج لأهداف أخرى. وهنا قضية مهمة، دعوتُ إليها سابقاً، ولا يوجد تحرّك إسلامي مدني لتبنّيها على الرغم من أهميتها، واستمرار استخدامها، لاستهداف حقوق المسلمين المدنية، فالنازية الغربية حملت أيديولوجيا ذات نزعة مسيحية متشدّدة، ومفهوم عنصري قومي خطير، وهي التي نفّذت، بالإجماع التاريخي، محارق النازية ضد الأبرياء اليهود، وهي جريمة تاريخية مروّعة مدانة لا يجوز التردد فيها. ومن مسؤولية هذه الجريمة أنها حوّلت مساحة التكفير ضد العرب، لترضية المواطنين اليهود في الغرب، ولليهود كأمة، من دماء شعب فلسطين المحتلة وحقوقه، وإرثه المقدس كما هو في كنيسة القيامة والمسجد الأقصى.
وعلى ذلك، الموقف التاريخي للمسلمين في الغرب مع أتباع الديانة اليهودية هو، في الأصل،
 كان خارج الصراع قبل فلسطين، فالموقف سامٍ وإنساني في احتضان المسلمين الأبرياء اليهود الفارّين من تلك المحرقة، وإن المحاولات التي يتبنّاها الإعلام الغربي، بين فترة وأخرى، لإلقاء مسؤولية جريمتهم التاريخية على المسلمين، عمليات تضليل كبرى. ومع الأسف، تُستخدم ثقافة بعض المسلمين العاطفية الهوجاء من قبل التحالف الصهيوني اليميني.
ستساهم هذه القضية، لو أُعيد نشرها، بخطاب مدني وتاريخي فكري، في سحب الورقة المزيّفة التي توجه موسميا ضد الأبرياء المسلمين، للتبرير الصريح أو الضمني لاستهدافهم، وليس هذا وحسب، بل إن هذه الأيديولوجيا العنصرية الغربية، ذات النزعة المسيحية المتشدّدة، والتي أحرقت اليهود بالأمس، هي التي تقتل المسلمين في مساجدهم اليوم في الغرب، وهناك لعبة خطيرة لصرف النظر عن مثل هذا الفهم الدقيق.
ولا يعني هذا أن اللوبي الموالي للحكومة الصهيونية لا يستغل هذه الحملات، وبالذات تضخيم هذا التضليل، لكن ما شجعه ومكّن له عدم قدرة العرب والمسلمين، على إعادة فهم هذه القضية، ووضعها في سياق، أولاً حق الضمير والإنسانية المطلق الذي نؤمن به نحن المسلمون، وكضمير عربي، ضد الإبادات الجماعية لأي أمة، والتي يعتبر المسلمون اليوم من أكبر ضحاياها، من البوسنة الى الإيغور إلى السوريين إلى الروهينغا، والثاني أنها تقوّي موقف القضية الفلسطينية، من حيث إن نقل المسؤولية من الجاني الغربي النازي على الفلسطيني العربي صاحب الأرض والمقدسات تزوير آخر للحقيقة.
ثانيا، في الفلسفة الإسلامية الأصيلة، لا يوجد تصنيف باسم "الرجل الأبيض"، فهذا المسمّى خطأ، وهو ما تنبه له مالكوم إكس في رحلة مراجعاته الفكرية، أمام المذابح التاريخية التي عاشها الأميركيون الأفارقة، وأن بياض البشرة، أو اختلاف القومية، لم يكن فاصلاً بين أبناء المسلمين ذاتهم، غير أن النزعة السادية المتوحشة ضد الأميركيين الأفارقة والشعب الأصلي ("الهنود الحمر") ظلت تظلم العلاقة بين الغربيين البيض و"الملونين" من كل أطياف العالم. وفي الحقيقة، تبعث هذه العنصرية اليوم، على الرغم من إرثها الدامي، وتتقدّم القوى السياسية الداعمة لها، في الولايات المتحدة الأميركية وفي بريطانيا وفي أوروبا، وتتمكن اليوم في كندا مع الأسف.
ثالثا، تكمن المشكلة الكبرى في أنه إن وجد بعض التقدّم لدى المسلمين في الغرب، في وسائل 
الخطاب الحقوقي والسياسي، إلا أنه ليس مؤسّساً على مفاهيم الحقوق المدنية التي تُبنى بعد القاعدة الفكرية في فهم الفكر المدني وفلسفة الإسلام فيه، ثم تؤسّس عبره منظمات مجتمع مدني مؤهلة ومستقلة، عن فكرة الأحزاب الدعوية في الشرق، وربطها بالعمل المدني.
ليس لعدم أحقية إدارات وتيارات المراكز الإسلامية، ولا منعهم من المشاركة، كلا.. وإنما لأن الانفتاح بين المجتمعات يحتاج أن يكون في فضاء مدني واسع، هو في الأصل من مكونات الدولة المدنية في الغرب، وليس من خلال كتلة سكان يتم التعامل معها، عبر المركز الإسلامي كحالة استثناء لمجموعة من العمال والموظفين وعوائلهم، تعبر عليهم المواسم السياسية، وهم في هذا الهامش.
رابعا، ما يفاقم الأمر هو قصور التجربة الإسلامية في الغرب عن التقدّم إلى مساحات التأثير وخلق فعاليات شراكة، تتقدّم بلا خجل ولا تردّد، وتصل المجتمع الغربي المدني المرتبك، أو الخائف من هذا الوجود، مع أسرة الموزاييك، وأن لهذا المجتمع المدني المسلم رؤيته، في المسؤول عن الجنايات التاريخية الكبرى في العالم. من دون أن يمنعه من أن يكون شريكا في رحلة البناء، متحداً مع المجتمع الغربي الأقدم أو أطياف الأقليات، لكنه أيضاً لا ينسى عشرات الملايين من الضحايا الأبرياء من سكان القارة الأميركية الذين أبادتهم ثقافة لها علاقة مباشرة بحملة الإسلاموفوبيا.
هنا يخلق المسلمون الكنديون والمسلمون في الغرب ثقافة تأسيسية أولاً لأجيالهم تنهض بلغة واثقة، تؤمن بأن الهوية الإسلامية ليست فقط حق لباس وأكل، بل هي صانعة نهضة ومسيرة إنسان وحرية شعوب. لو طبقنا عليها خطبة الزعيم الهندي العظيم، سياتل دواميش، بعد استسلامه، لوجدناها لحظة زاخرة بالكرامة، فيكفيك أن الأمم التي عبر عليها الإسلام وعرض عليها رسالته، لا تزال باقية بشعوبها وحضارتها، والأمم التي عبرت عليها العنصرية الغربية المسيحية اختفت من الأرض، ووقع لها ما توقعه "الهندي الأحمر" الأخير.