مفعول رجعي للإرهاب

مفعول رجعي للإرهاب

05 سبتمبر 2019
+ الخط -
كادت تصريحات رئيس الجمهورية اللبنانية، ميشال عون، في الأول من سبتمبر/ أيلول الحالي، لمناسبة الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير، واتهم فيها الدولة العثمانية بممارسة "الإرهاب" بحق اللبنانيين، تُحْدث أزمةً حقيقية بين لبنان وتركيا، فضلاَ عن أنها أحدثت شرخاً بين اللبنانيين يتسع يوماً بعد يوم. قال الرئيس "كل محاولات التحرّر من النير العثماني كانت تقابل بالعنف والقتل وإذكاء الفتن الطائفية، إن إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون، على اللبنانيين خصوصاً خلال الحرب العالمية الأولى، أودى بمئات آلاف الضحايا ما بين المجاعة التجنيد والسخرة". واعتبر الرئيس الاحتلال الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى نوعاً من النفوذ فقط. وقد استدعت هذه التصريحات ردّاً من الخارجية التركية، أسفت فيه لهذا الخطاب، ورأت أن ما تضمّنه ليس له أساس من الصحة، بل مبنيٌّ على نوع من الأحكام المسبقة، نافية وجود "إرهاب دولة" في تاريخ السلطنة. فضلاً عن أن هذه التصريحات أشعلت نوعاً من السجال الداخلي، وشرخاً بين مكونات الشعب اللبناني، إذ لم تكن السلطنة العثمانية التي عمّرت قرابة خمسماية عام تعني الأتراك فقط، بل تعتبر نوعاً من الإرث التاريخي الإسلامي. ولذلك ردّ باحثون عديدون على ما تضمّنه خطاب الرئيس من الناحية التاريخية، بينما أعلن سياسيون مقرّبون من رئيس الحكومة عدم رغبتهم في إثارة هذا السجال في هذا التوقيت، سائلين عن المصلحة في ذلك، وفي إحداث نوع من الأزمة في العلاقة مع الدولة التركية وريثة السلطنة العثمانية! في حين تولّى رجال دين وعلماء مسلمون مقرّبون من مفتي الجمهورية اللبنانية التأكيد على دور السلطنة العثمانية في حفظ التنوّع، خصوصا في لبنان، في ردٍّ مبطّن على الرئيس، وفي رغبة غير معنلةٍ في عدم الدخول في سجال معه أيضاً، أو إثارة أزمة داخلية في هذا التوقيت. 
هناك ملاحظات حقيقية وجدّية على أداء الدولة العثمانية، خصوصا خلال السنوات الأخيرة من عمرها، حيث كانت تعيش حالة احتضار حقيقي، وقد خرج القرار حينها من يد السلطان إلى أيدي الجمعيات التي عبثت بالدولة، وانقلبت على قيادتها وتاريخها، خصوصا خلال السنوات 
التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ابتداءً من العام 1910 إلى حين سقوط لبنان والمنطقة تحت الهيمنة والاحتلالين الفرنسي والبريطاني، إلا أنّ الذهاب إلى حدود اتهام العثمانيين بـ"إرهاب الدولة"، ومسح تاريخ وطويل وعريق في المنطقة ببضع سنوات أخيرة من عمر هذه الدولة، ففي هذا الكلام إجحاف كبير، بل اتهام في غير موضعه وموقعه لتاريخ شريحة كبيرة وواسعة جداً في المنطقة، فالعثمانيون لم يكونوا الأتراك فقط، بل شعوب المنطقة على تنوّعهم وتعدد ثقافاتهم، وقد شغل عديدون من أبناء هذا التنوّع والتعدد مناصب قيادية متقدّمة في الدولة العثمانية، سواء على المستوى المركزي للدولة، أو على المستويات المحلية، ولذا من الغبن والإجحاف اتهام هذا التاريخ بتهمة "الإرهاب".
النقطة الأخرى التي تفيض عن ذلك أن مصطلح "الإرهاب" لم يكن متداولاً أو معروفاً في تلك الفترة التي قصدها الرئيس، لأنه بكل بساطة مصطلحٌ حديث، لم يجد العالم حتى اليوم تعريفاً واحداً وثابتاً له، بل يخضع هذا المصطلح، عند تعريفه، إلى أهواء الدول والأحزاب وحتى الأفراد، ومصالحهم، بما يعطي لكل منهم "الحق" بما يريد وفقاً لتعريفه الخاص للإرهاب، وبما يخدم مصالحه وأهدافه.
ولكن، لعلّ أخطر ما في مثل تصريح الرئيس ميشال عون أنه يتهم بمفعول رجعي، يعود إلى أكثر من قرن، السلطنة العثمانية بـ"الإرهاب"، وبالتالي قد يعطي ترسيخ هذا الاتهام بعضهم ذريعة لمحاكمة تلك الدولة وتلك الفترة بهذه التهمة مع مفعول رجعي، ما يعنيه ذلك من بناء مواقف وسياسياتٍ تتسق مع السياسات الحالية المرسومة لمستقبل المنطقة ككل.