الكواكبي وطبائع الاستبداد

الكواكبي وطبائع الاستبداد

27 سبتمبر 2019
+ الخط -
لا يمكننا كتابة هوامش على الظاهرة الاستبدادية، ونغفل المتن الذي كتبه عبد الرحمن الكواكبي (1854 – 1902)، ليقدم نظرية متكاملة في التعرّف على الظاهرة الاستبدادية ومبانيها، وشبكيتها ومراميها. وتسكين هذا المتن ضمن المدرسة الخلدونية أمر في غاية الأهمية لمدرسةٍ ربما جعلت من أهدافها تشريح الظاهرة الاستبدادية، والتعرّف على خرائطها وجهازها المفاهيمي. ها هو الكواكبي في نص فريد يحمل على الاستبداد، ويذكّر بذراريه وعائلته الخبيثة "لو كان الاستبداد رجلاً، وأراد أن يحتسب بنسبه لقال: أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابني الفقير وابنتي الحاجة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب". وفي مقارنة بين كلماتٍ تدعو بعضها تأتي معه مصاحبة في مواجهة كلماتٍ أخرى، تشكل حالة أخرى مناقضة لحالة الاستبداد وتوابعها "فيستعملون في مقام كلمة "استبداد" كلمات: استعباد، واعتساف، وتسلُّط، وتحكُّم. وفي مقابلتها كلمات: مساواة، وحسّ مشترك، وتكافؤ، وسلطة عامة. ويستعملون في مقام صفة "مستبدّ" كلمات: جبّار، وطاغية، وحاكم بأمره، وحاكم مطلق. وفي مقابلة "حكومة مستبدّة" كلمات: عادلة، ومسؤولة، ومقيّدة، ودستورية. ويستعملون في مقام وصف الرّعية "المستَبَدّ عليهم" كلمات: أسرى، ومستصغرين، وبؤساء، ومستنبتين، وفي مقابلتها: أحرار، وأباة، وأحياء، وأعزّاء".
يعتبر كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" للعلامة عبد الرحمن الكواكبي من الكتب الجديرة بالقراءة والدراسة، وعلى الرغم من أنه مرت على تأليفه سنوات طويلة، إلا أنه يشخص الحالة السياسية الراهنة بصورة دقيقة ومعبّرة. يتحدث عن الاستبداد وطبائعه، كما يتحدث بإسهاب عن المستبد وحاشيته وعلاقة الاستبداد بالدين والمال والمجد والعلم وغيرها. بجانب ذلك يقدم الكتاب العميق الرصين، في نهايته، وصفة دقيقة وحكيمة ومكينة عن كيفية التخلص من الاستبداد. من يطالعه يعرف بجلاء أن للاستبداد طبائع وسننا مضطردة، لا تتحول ولا تتبدل، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان. ومن يقرأ الكتاب يظن أن الكواكبي قد كتبه الآن، ولم يمر على تأليف الكتاب أكثر من مئة عام، وكأن الكتاب يتحدّث عن استبداد حاضر وقائم، لا استبداد سابق وماض. وسيدهشك الأمر من ذلك التطابق المدهش بين ما في الكتاب والذي يتحدث عنه الكواكبي، والذي يصور الماضي البعيد وما نعانيه في زماننا هذا، هذا الكتاب لا يراعي فروق الوقت بين زمان الكواكبي وزماننا.
ستجد في الكتاب وأنت تطالعه حكاية ما يحدث في هذا الوقت الدقيق، وهذا المنعطف الخطير 
الذي تمر به المنطقة العربية، ففي هذا الوقت العصيب يغادر حياتنا السياسية ثلة من المستبدين غير مأسوف عليهم، فمن المستبدين من قذفه شعبه في مزابل التاريخ، ومنهم من ينتظر. الكتاب يتخذ أهمية خاصة في هذه اللحظة المفصلية بالتحديد، والعالم العربي يفور ويمور على مرجل التغيير والرحيل. كما أن الكتاب سينال زخما أكبر حينما نضع أحد هؤلاء المستبدّين الذاهبين واللاحقين، لنجد الكتاب وكأنه يتحدث عنه. وبذلك يكون الكواكبي كأنه كان ينظر، عبر نافذته التاريخية، إلى استبداد عصرنا الراهن، والمستبدّين الذين غزلهم نول زماننا الحائر، وسنجد أنفسنا، ونحن نطالع الكتاب، وكأننا نعيش في عصر الكواكبي، أو كأن الكواكبي يعيش بيننا. وعلى كل، يستشرف الكتاب التاريخ بصورة كاشفة وفارقة ولافتة، وجديرة بالبحث والمطالعة.
هذا الكتاب "نص حر" يحرّض على الحرية ويصنع حماتها. النص الحر، وهو نادر في وجوده، وفي قيمته، يحرّك كل مفردات الحرية والكرامة والشرف والعزة والإرادة. إنه يطالب بكتاب للعلوم السياسية مغموسا قلمه في محبرة الحرية والتضحية من أجلها، ويواجه كيمياء السلطة واستبدادها، ويقاوم تكنولوجيا الاستبداد وتجلياتها.
إنه يعرّف العلوم السياسية تعريفا فريدا عميقا بلفظ حر ومعنى حر، يخلص الإنسان من الخنوع والمذلة والعبودية، إن علم السياسة، على ما يعرفه الكواكبي، "هو إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة يكون بالطبع أول مباحث وأهمها علم الاستبداد، أي التصرّف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى، ويقول: "الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج من وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة"؛ ويرى أن على المتكلم في هذا الباب أن يلاحظ تعريف الاستبداد وأسبابه وأعراضه ودوائه..".. هل فهمتم، يا سادة، ما هي بنية علم السياسة الحر التي تهتم بالضرر الأكبر الواجب منعه ودفعه ورفعه بكل طريق ومن كل طريق، معرفة الاستبداد قبل الحديث عن مداخل ومسالك عمران البلاد، لأن الظلم والاستبداد يخرّبان ويؤذنان بخراب العمران، هذا القانون الخلدوني الذي استلهمته تلك المدرسة وتنوعت كتاباتها.
ولو تدبرنا الأمر بما يحدث من تطوّرات في الحالة المصرية، حتى وصلنا إلى محطة غاية في الخطورة، وهي "الحالة الانقلابية"؛ فإن الكتاب يشير، ومن طرف خفي، في استراتيجية أسئلته الكبرى؛ إلى كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد؟! وفي سياقٍ يشير ليس فقط إلى الاستبداد في ذاته، وتشريح مكوناته ورصد آلياته وأساليب سياساته وممارساته، بل إلى قابليات الاستبداد التي تحكم عناصر الاستبداد، وتمكّن لحلقاته على الأرض، استقرارا واستمرارا.
لو كان الأمر بيدي لجعلت الكتاب أحد الكتب التي يدرسها الطلاب في مدارسنا، حتى تتعرّف الأجيال على الاستبداد، وتحاربه وتضع المتاريس في طريقه، وتفطن إلى ألاعيبه ومعايبه؛ ولكن هذا لن يتحقق إلا في ظل دولةٍ عادلة وغير مستبدة؛ يدرس بدلا من كتب التربية الوطنية الصانعة للمستبد المروّجة سلطانه وطغيانه، بالحديث تارة عن الزعيم الملهم، وتارة أخرى عن الزعيم الخالد، وتارة ثالثة عن زعيم يقطر بالحكمة لا تتعدّاه، فيسهل تداول عبارات "بناء على توجيهات الزعيم أو السيد الرئيس"؛ إنه الكتاب الذي يصنع الحرية، ويبني مواقف الأحرار.
أكد الكواكبي أنه يضعُ خلاصة عناء طويل من المطالعة والدراسة والبحث ثلاثين عاماً، حيثُ 
تمحص لديه أن السبب الحقيقي وراء انحطاط أي أمة، هو الاستبداد السياسي، بين أن هدفه، من ذلك، هو التنبيه لمورد الداء الدفين، ببيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه. واستهل في المقدمة، مؤكّداً على الحقيقة السابقة، بالبراهين والأدلة، المقنعة باستقراء التاريخ ومشاهدات واقع ومجريات الحياة، وذلك مثل قوله: "ومن الأمور المقرَّرة طبيعةً وتاريخاً‌ أنَّه؛ ما من حكومةٍ عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها إلّا وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة. وهما أكبر مصائب الأمم وأهمّ معايب الإنسانية، وقد تخلَّصت الأمم المتمدُّنة، نوعاً ما، من الجهالة، ولكنْ؛ بُليت بشدة الجندية الجبرية العمومية؛ تلك الشّدة التي جعلتها أشقى حياةً من الأمم الجاهلة، وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد. ومن يدري كم يتعجّب رجال من تَرَقِّي العلوم في هذا العصر ترقِّياً مقروناً باشتداد هذه المصيبة التي لا تترك محلاً لاستغراب إطاعة المصريين للفراعنة في بناء الأهرامات سخرة؛ لأنَّ تلك لا تتجاوز التّعب وضياع الأوقات، وأمّا الجندية فتُفسد أخلاق الأمّة؛ حيثُ تُعلِّمها الشّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلِّف الأمّة الإنفاق الذي لا يطاق؛ وكُلُّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم" وكأنه يتحدّث عن عسكرة المجتمعات كأحد أهم أشكال الاستبداد.
إنه يشير إلى جهالة الشعوب التي تشكل قابليات للاستبداد و"الجندية" التي تشكل أخطر آليات الاستبداد "شدة الجندية الجبرية العمومية"، اجتماع هذين الأمرين تمكينٌ لحال الاستبداد. إنه يقرأ الانقلاب حينما تتحوّل الجندية (العسكرة) في استخدام قوتها وتزيف أدوارها وتمد ظلالها على كامل مساحات المجتمع وساحاته، وكأنه يشير من كتابه المفتوح إلى استبداد الانقلاب والاستبداد الانقلابي.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".