أصوليات تجتاح المنطقة

أصوليات تجتاح المنطقة

14 اغسطس 2019
+ الخط -
في غضون أيام قليلة، اشارت ثلاثة أحداث إلى سيادة واقع أصولي لم يعد يستثني أيا من مكونات المنطقة، ويقضم من مساحة التنوير، الضيقة أصلاً والمتراجعة، بعد أن سطت عليها السياسة، ووظفتها في خدمة مشاريعها، مثل ادّعاء أنصار النظام السوري أنهم تنويريون للتغطية على تأييدهم المذبحة السورية.
أول هذه الأحداث منع فرقة "مشروع ليلى" الغنائية من المشاركة في مهرجانات بيبلوس في جبيل اللبنانية، بذريعة أن محتوى إحدى أغنيات الفرقة يخدش "الشعور الديني"، وتتهكم على رموز الدين المسيحي ومعتقداته، وقد اتخذت مرجعيات مسيحية لبنانية موقفاً داعماً للموقف الداعي إلى إلغاء الحفلة، ولم يكن من السلطات اللبنانية إلا أن ألغت الحفلة خوفاً من "إراقة الدماء"؟
الحدث الثاني كان مسرحه افتتاح تصفيات غرب آسيا لكرة القدم في كربلاء في العراق، حيث اعترضت رموز دينية وسياسية عراقية على عازفة الكمان اللبنانية، جويل سعادة، بذريعة أنها بلباسها المكشوف تهتك "قدسية المدينة المقدسة"، بحسب وصف رئيس الوزراء العراقي السابق ورئيس حزب الدعوة، نوري المالكي، الذي دان بشدّة "ما حصل في ملعب كربلاء المقدسة من حفل رافقته موسيقى راقصة"، مع العلم أن سعادة عزفت النشيد الوطني العراقي، وكانت تلبس لباساً يغطي أكثر مما يكشف من جسدها؟
الحدث الثالث يكاد يكون كاريكاتورياً بامتياز، إذ منع رجل حزبي متدين حفلة شعرية وفنية تحمل اسم الشاعر محمود درويش، نظّمها "ديوان الأدب" في النبطية، بسبب "فتوى" أعلنها هذا الرجل، تقضي بتحريم الطبلة (أو الدربكة) واعتبارها أداة تثير الغرائز لدى الرجال والنساء!
تصنف الأحداث الثلاثة في إطار التدخل العنيف في قضايا الحريات العامة، ومحاولة إخضاع
 الفن والإبداع لسلطة الدين، بذريعة المحافظة على القداسة في مواجهة دناسة الفنون والآداب. وليس هذا كل الأمر، بل هي إفرازاتٌ، متأخرة، لأيديولوجيات يعتقد أصحابها أنها صارت من القوّة بحيث تستطيع السيطرة على المجال المدني، وفرض شروطها وقواعدها وأحكامها، وما على صنّاع الأدب والفكر والفن إلا أن يخضعوا لسطوتها وجبروتها، أو فإن الدماء ستراق، ولا توجد خيارات أخرى.
أين ترعرع هذا المنطق، وكيف ومتى تمنطق بالسيف، وراح يهدّد بكبت أنفاس الحريات، ما لم تتوافق مع مسطرة شروطه؟ وهل هذا التحوّل "الراديكالي" وليد هذا الصيف الذي جاء بهذه النشاطات والفعاليات، أم أنه تسربل في شقوق أنسجة مجتمعات المشرق عبر سنوات، ولم تنتبه له قوى التنوير في المنطقة التي كانت مشغولة بسجالاتٍ من نوع أن حزب الله ومليشيات الحشد الشعبي مقاومة متنورة وجبهة النصرة وأضرابها جيوش ظلامية أو العكس!
ليس خافياً أن حالة الإضطراب وعدم الاستقرار التي مرّت بها المنطقة في العقدين الأخيرين تتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية عن هذا التحوّل، وخصوصا لجهة شعور أغلب المكونات الإجتماعية في المنطقة، بعد الأمان والخوف على مصائرها. في ظل حروب الإبادة والإلغاء التي أصبحت عنواناً بارزاً، وفي ظل هذا الواقع، تصدر المتطرفون وأصحاب الرؤوس الحامية المشهدين، الإجتماعي والسياسي، بصفتهم المنقذين للمكونات المهدّدة بالإبادة، والمنتقمين من الخصوم الذين لا يرحمون.
ومع ظهور هؤلاء وتسيّدهم، أصبح لزاماً على القوى الناعمة التي ليس لديها انتماء مكوناتي أصيل، بقدر انتمائها لأوطان، لم يعد لها وجود حقيقي سوى في الخيال، التنحّي، بل والخضوع الكامل لإرادة القوى الجديدة التي باتت تملك مهام شاملة، ليس فقط الدفاع عن المكون، بل رصد ومتابعة ما يصدر عن القوى الناعمة في الجهة الأخرى من نشاطات وفاعليات قد تنطوي على تهجم وإهانة، بوصفها أداة مؤامرةٍ بيد الخصم، الآخر، الشريك اللدود في الوطن.
لكن هؤلاء أيضاً هم نتاج انحراف النخب السياسية والفكرية في المنطقة، لم يصلوا إلى هذه
 النقطة، إلا بعد تخريب طويل مارسته النخب المذكورة، حكماً وتنظيراً، بل يمكن القول إن المتطرّفين الذين نراهم اليوم في صدارة المشهد هم برغي في ماكينة السياسة التي تحرّكها نخب تلهث وراء المكاسب والحفاظ على السلطة بأي ثمن، كذلك هم نتاج التدخلات الخارجية وعبثها بالمنطقة، بدءاً من التدخل الأميركي في العراق، وصولاً إلى التدخلات الروسية والإيرانية والتركية، وجميع هذه التدخلات استثمرت في العوامل الإثنية والطائفية من دون أدنى وجل، ودع عنك ممارسات إسرائيل العنصرية والطائفية التي تلاقي تأييداً عالمياً.
هل نجا أحد من هذا المأزق في منطقتنا؟ تقول كل المؤشرات إن القوى التنويرية والفوق طائفية وإثنية ضعيفة، ومجرّد أفراد باتوا خارج السياق، ولا يعوّل عليهم في الوقوف في مواجهة هذا السعار الأصولي الذي يجتاح المنطقة برمتها، ذلك أن القوى المواجهة لهم أكثر تنظيماً وأوفر تمويلاً، ولديها القدرة على الحشد والتجييش، كما أنها تملك الأدوات اللازمة لإنفاذ برامجها، فيما القوى التنويرية ليست سوى أفراد متذمرين يصرخون في واد ولا صدى لصوتهم.
طبيعي أن ما حصل في جبيل وكربلاء والنبطية مجرد مقدمة، أو إعلان من هذه القوى الأصولية أنها باتت متمترسة في المشهد، ومن كان يعتقد أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قد دفن في الرقة وعلى أطراف الموصل فما عليه سوى فرك عينيه وإزاحة الغباش عنهما ليرى "داعش" وقد ملأ أمكنة كثيرة في هذا المشرق التعيس.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".