عن "الأخبار" ومثيلاتها

عن "الأخبار" ومثيلاتها

10 يوليو 2019
+ الخط -
مما تعلّمناه في ألف باء الصحافة أنه لا يجوز نشر أي معلومةٍ في خبر أو تقرير إخباري، ولو كانت بديهيةً ذائعة، من دون نسبتها إلى مصدرٍ، معنيٍّ بها وبموضوعتِها. وهناك من وسائل الإعلام من تأخذ منحىً حنبلياً، فتشترط على محرّريها ومندوبيها ومراسليها نسبة المعلومة إلى مصدريْن يؤكّدانها، لا سيما إذا كانت على شيءٍ من الحساسية. ومن الألف باء نفسِها، علّمونا أن عليك، في كتابتك التقرير أو التحقيق الصحافي، عندما تورِد فيه ما تراه مأخذاً أو تقصيراً أو نقيصةً أو اتهاماً ما، على مسؤولٍ أو جهة، أو حتى دولة، أن تتصّل به (أو بها)، لتسلّح مادتك الصحافية بردّه أو توضيحه، وإذا امتنع عن التعقيب، عليك أن تذكر هذا... 
يجد صاحب هذه الكلمات حرجاً، وهو "يتعالَم" على القارئ بهذه البديهيات، إلا أن ما يضطرّه إلى هذا ما قارفته صحيفة الأخبار البيروتية، أول من أمس الاثنين، في نشرها تقريراً عنونته "قطر تستهدف إرث جورج حبش". لم تكتف فيه بتحطيم تلك المسلّمات، والتي يُطالَب المبتدئون في مهنة الإعلام بمعرفتها، وإنما زادت على مسلكها هذا أنها ذهبت إلى مستوىً في الإساءة إلى نفسها، لم يكن ناقدوها، ونحن منهم، يريدون لها أن تصل إليه، فللخصومة السياسية والإعلامية مع من تختلف معه أصولٌ وأخلاقٌ، يبقى مطلوباً دائماً أن تُصان، وأن يُؤخَذ بها، وإذا لم تفعل فإنك تخصم من اسمك ورصيدك ومكانتك. وإذا كانت الصحيفة المتحدّث عنها قد زلّت كثيراً أو قليلاً، في مواضيع وقضايا غير قليلة، فإنك تتحلّى بمقادير من التسامح هنا وهناك، بدافع القناعة بحرية الرأي والتعبير أحياناً، وبدافع تفهّم أجواء الشحن السياسي الحاد، الراهن في المنطقة، غير أن القاع الذي سقطت فيه اليومية البيروتية، في قصة استحواذ دولة قطر على إرث جورج حبش، عصيٌّ على أن تتصوّره الأخيلة والمدارك.
خلافٌ بين أسرة جورج حبش وكاتبٍ وناشر، أوضحه بيانٌ نشرته أرملة الراحل الكبير في صحيفةٍ عربية زميلة. ولكن "الأخبار"، وهي التي تُؤثر التفاصح والتشاطر في ألف ملفٍ وملف، رأت أن وراء الأكمة ما وراءها، وطبخت توليفةً من أكاذيب غريبةٍ وعجيبة، قصدت منها استهداف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومديره العام عزمي بشارة، ونسبت إلى صحيفة القدس العربي التي نشرت ذلك البيان ما لا عِلم لأحدٍ به، ولا تدري به الصحيفة نفسُها، والتي كان متوقعاً، أو مطلوباً منها على الأصح، أن تبادر إلى تكذيب الإفك الذي رُميت به، غير أنها لم تفعل، لأسبابٍ تخصّها، فيما رأى المركز العربي، في زمن ثقافة السوشيال ميديا، إيضاح ما قد لا يكون واضحاً عند من يريد حقا أن يعرف، أما الذي تتوطّن في أفهامه أنها عنزةٌ ولو طارت فله أن يبقى على حالِه هذا، سعيداً بتلقّف ما تقذفه حواشي الإمارات والسعودية وإيران، ومعهم الموتورون ممن يعدّون أنفسهم إسلاميين أو علمانيين أو يساريين، وكذا عموم قليلي الأدب من أمثال هؤلاء، والشبيحة والمخبرون، ولا يُنسى التنويريون من الصنف إيّاه، وسائر من أسعدهم أن يطالعوا التطاول المتهافت الذي أقدمت عليه "الأخبار" على مركز أبحاثٍ، يواصل حضوره العام في الفضاء الأكاديمي العربي، بإسهاماته المعرفية.
تصلُح واقعة "استهداف قطر إرث جورج حبش"، كما نشرتها الجريدة المسمّاة أعلاه، عيّنةً في تعريف المتدرّبين في العمل الإعلامي بكيفيات كتابة التقرير الصحافي الموثّق، وأولها ازدراء هذه العيّنة بالضبط، وما يماثلها مما تُواظب على نشرِه، وبثّه، وسائطُ إعلام وصحافاتٌ وتلفزاتٌ ومواقعُ إلكترونية، لا تتقن شيئاً غير الرداءة والانحطاط، لغةً وركاكةً وابتذالاً، وفي الوقت نفسه تثير الشفقة، عندما يظن القائمون عليها، ومن يدفعون أجور المستقدمين للعمل فيها، أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومديره العام، والباحثين الفاعلين فيه، وعموم المساهمين في إنتاجاته، من أكاديميين وباحثين في بلاد عربية وأجنبية عديدة، سيستقبلون تلك البذاءات باكتراثٍ كثير، فيما هم يواصلون دأبهم في مشاغل معرفية، وفي إنتاج الأفكار. وفي الأثناء، تُتعب "الأخبار" اللبنانية نفسَها في بحثها عما ينفعها في الدسّ على المركز ومديره عزمي بشارة، وعندما لا تفلح، تطبخ توليفة "استهداف قطر إرث جورج حبش"، لتصطفّ، في سقطتِها الفادحة هذه، مع أصنافٍ مثيلةٍ، تزاول مثل هذه الممارسة، إماراتية وسعودية وأردنية.. إلخ.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.