الحاجة إلى نموذج السبسي

الحاجة إلى نموذج السبسي

01 اغسطس 2019
+ الخط -
شكلت وفاة الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، اختبارا حقيقيا لمدى قدرة النخب التونسية على استيعاب إكراهات التحول الديمقراطي والتحكمِ فيها وتوجيهها، بما يخدم أهداف ثورة الياسمين التي أطاحت نظام زين العابدين بن علي، وأطلقت شرارة الثورات العربية قبل زهاء تسعة أعوام. وللإنصاف، أبانت هذه النخب عن نضج سياسي لافت في التعاطي مع لحظة رحيل السبسي، ووضعها في سياقها السياسي والإنساني، بما سمح بالحفاظ على مؤسسات الدولة واستمراريتها من ناحية، واستثمار هذا الحدث في التعبير عن وعي هذه النخب بأهمية الاحتكام للشرعية الدستورية من ناحية أخرى. وبدا ذلك في السلاسة التي تم فيها انتقال السلطة إلى رئيس مجلس النواب، كما ينص على ذلك الدستور التونسي. ويمكن القول إن ما حدث في تونس خلال الساعات القليلة التي أعقبت وفاة السبسي كان رسالة واضحة ودالة إلى القوى الإقليمية والدولية التي تتربّص بتونس، للانقضاض على تجربتها الديمقراطية، وجرّها إلى الفوضى وعدم الاستقرار.
كان لافتا أيضا الإجماعُ الذي حظي به السبسي عند وفاته، من خلال حرص مختلف مكونات الطبقة السياسية التونسية على حضور جنازته، وتقديم واجب العزاء لأسرته. ويرتبط هذا الإجماع، أساسا، بالدور الذي لعبه الرجل في تعزيز التحول الديمقراطي في تونس، سواء من خلال احترامه المقتضيات الدستورية التي تؤطر علاقة السلطات ببعضها بعضا، أو عمله على توسيع دائرة التوافق الوطني، ليشمل الجميع بمن فيهم الإسلاميون، على الرغم من انحدار الرئيس الراحل من المدرسة البورقيبية. وقد لا يكون من المبالغة القول إن السبسي يحيل، بشكل أو بآخر، على نموذج من الساسة المعتدلين الذين يلعبون أدوارا تاريخية في مختلف تجارب التحول الديمقراطي، ويشكلون صلة وصل ضرورية وحاسمة بين نظام استبدادي انتهت صلاحيته السياسية ونظام آخر يتطلع للقطع مع الاستبداد وبناء ديمقراطية متوافق عليها، فنجاح هذا التحول يتطلب، بالضرورة، وجود جناح معتدل داخل النظام السابق (الاستبدادي) يؤمن بدورة التاريخ، ويُسهم، بالتالي، في تأمين المسار الانتقالي، بمعنى أن مسؤوليته تكون مزدوجة؛ ضمان الحد الأدنى من مصالح النظام السابق، حتى لا ينهار هذا المسار، والانخراط، مع قوى النظام الجديد، في بناء الديمقراطية وترسيخ هياكلها.
تعجّ تجارب التحول الديمقراطي بهذا النوع من الساسة الذين يلعبون أدوارا حاسمة في الانعراج السلس وغير المكلف ببلدانهم من الاستبداد إلى الديمقراطية. وربما تصح المقارنة، هنا، بين السبسي والسياسي الإسباني الراحل أدولفو سواريث الذي لعب دورا رئيسيا في التحول الديمقراطي في بلاده، مع أنه كان قد شغل مسؤوليات كثيرة في نظام الجنرال فرانكو، أبرزها منصب مدير الإذاعة والتلفزة، بما يعنيه ذلك في نظام عسكري ويميني محافظ. غير أن رحيل فرانكو جعل سواريث يدرك التكلفة السياسية الباهظة لاستمرار الفرنكوية بالنسبة لإسبانيا، الشيء الذي أهّله ليكون أحد الفاعلين الأساسيين في مخاض التحول الديمقراطي، لا سيما في ما يتعلق بالعفو عن المعتقلين السياسيين، ورفع الحظر عن الحزب الشيوعي.
تكتسي مقارنة حالة السبسي بحالة سواريث أهميتها من أنها تسلط الضوء على ورشة التحول الديمقراطي التي لا تزال النخب السياسية العربية بحاجة لاستخلاص الدروس من تجاربها المعروفة. ولعل أول هذه الدروس إدارة الانقسام الفكري والأيديولوجي بين القوى المجتمعية، لا سيما بين الإسلاميين والعلمانيين. وهي عملية ليست سهلة في ضوء طبقات التقليد المترسبة في الثقافة السياسية العربية، وتتطلب قدرا غير يسيرٍ من المرونة والاعتدال والتروّي في اتخاذ القرارات وتصريفها عبر منعرجات السياسة التي لا تستقر على حال.
لم يكن السبسي ينحدر من مدرسةٍ تؤمن بالديمقراطية، تشهد على ذلك المناصب الوزارية التي تقلدها خلال عهدَيْ بورقيبة وبن علي، ولكنه أدرك، في لحظة تاريخية فارقة، بخبرته السياسية الطويلة، أن الوقوف ضد المد الديمقراطي في بلاده لن يكون مجدياً. ولذلك حرص، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، في العام 2014 على التكيف مع متطلبات المرحلة، فلم ينجر خلف دعوات صقور البورقيبية وأنصار النظام السابق للتضييق على حركة النهضة، تمهيدا لاستئصالها، لكنه، في الوقت نفسه، ظل وفيا للإرث البورقيبي، ومنافحا عنه، باعتباره أحد روافد سيرورة التحول الديمقراطي في تونس.