سحق الحقوق الفلسطينية بالتفوّق الإسرائيلي

سحق الحقوق الفلسطينية بالتفوّق الإسرائيلي

24 يوليو 2019
+ الخط -
تتربّع إسرائيل اليوم على عرش القوة في المنطقة، من دون منافس أو رادع حقيقي. ومع التأييد الأميركي غير المسبوق من إدارة الرئيس ترامب اليمين الإسرائيلي، يمكن القول إن إسرائيل تُشيّد عرشاً من الرماح. وقد عزّز هذا الواقع الجديد المقولات التاريخية لليمين الإسرائيلي التي تقول إنك لا تستطيع أن تحصل على الأمن في المنطقة إلا بالقوة، وإذا لم تنجح القوة فإن مزيداً منها قادرٌ على حل المشكلة، ويحقق أمناً أكثر.
بالتأكيد، يرتبط الأمن بتعزيز قوة الدول، وكلما كانت قوة الدولة أكبر كان أمنها أكثر استقراراً. هذه معادلة تقليدية لتحقيق الدول أمنها. ولكن هذه المعادلة تصحّ على الدول ذات الولادة الطبيعية، أما إسرائيل التي ولدت في سياق مختلف عن التطور الطبيعي للدول، وفي ظل شروط صراعية مع المنطقة، فإن إنجازها التفوق الكبير لم يمنحها الأمن على مدى تاريخها القصير، بقدر ما كان هذا التفوق من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة. ومن ثم هو ذاته ما سبّب عدم الاستقرار في إسرائيل، التي لا زالت، على الرغم من تفوقها، تشعر بالتهديد الجدّي لوجودها.
منذ ولادتها، بقي هاجس الأمن هو الطاغي على وجود إسرائيل، وعندما دفعتها التحولات التي شهدها العالم والمنطقة، في بداية عقد التسعينيات، إلى دخول عملية التسوية في مدريد عام 1991، تحت شعار "الأرض مقابل السلام"، كان الهاجس الإسرائيلي هو ذاته هاجس "الأمن". ما جعل الهدف الإسرائيلي من كل العملية هو كيف تحوّل الانتصار الإسرائيلي إلى واقع حال في المنطقة، بإقرار فلسطيني وعربي. ومن ثم، وضع كل المنطقة في شبكة من العلاقات الأمنية تكون إسرائيل مرجعيتها. ولم يكن الأساس الذي دخلت إليه عملية التسوية، يقوم على الاعتراف بالظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني جرّاء الاحتلال الإسرائيلي الأرض الفلسطينية، والاعتراف بحقوق هذا الشعب بتقرير مصيره في أقل من ربع أرضه التاريخية وتصفية الاحتلال، فالتصور الإسرائيلي، كما أسفرت عنه المفاوضات، قام على أساس تحويل الاحتلال إلى احتلال مريح، احتلال من الخارج، حسب صيغة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، وتحويل الأرض الفلسطينية حديقة خلفية لإسرائيل. ما يعني أن عملية التسوية كلها كانت تهدف، حسب هذا المنطق، بشكل فج، إلى تشريع الاحتلال، بموافقة فلسطينية وعربية.
مشكلة إسرائيل مع الفلسطينيين أنها تتعاطى معهم بوصفهم قضية إسرائيلية داخلية، أي إن نتائج 
التسوية مع الفلسطينيين لا تحسم في المفاوضات معهم، إنما في النقاش الداخلي الإسرائيلي. ويستند هذا السلوك إلى اعتبار إسرائيل نفسها المتحكّم بالعملية، والقادرة على فرض شروطها. ولذلك أعادت، في كل مرة، التفاوض مع الطرف الفلسطيني على قضايا تم توقيع اتفاقاتٍ بشأنها على مدار عقد من المفاوضات، مستندة بذلك إلى تفوّقها في مجال القوة، ليس إلا.
إحساس إسرائيل بتفرّدها بالقوة في المنطقة جعلها غير مستعجلة في عملية التسوية، على اعتبار أن الطرف الآخر غير ناضج لتسويةٍ طالما أنه لا يريد أن يقدم التنازلات التي ترغبها إسرائيل. وأخذ الجدل الداخلي في إسرائيل يتصاعد بشأن قضايا التسوية وعلمانية الدولة وصهيونية الدولة... إلخ. وقرأ كتّابٌ عرب في هذا الجدل المتصاعد مؤشر ضعفٍ يعتري إسرائيل كدولة، ويدفعها إلى التفكّك والحرب الأهلية الداخلية، استناداً إلى استنتاجاتٍ لكتاب إسرائيليين، حذّروا من دخول إسرائيل دوامة الحرب الأهلية من بوابة الانقسامات الداخلية الإثنية والعلمانية الدينية وغيرها. وهذه القراءة فيها متسرعة لواقع الانقسامات والصراعات داخل إسرائيل (كما القراءة الساذجة لاحتجاجات اليهود الإثيوبيين في إسرائيل أخيراً). وهذا لا يعني أن إسرائيل لا تعاني من أزمات، ولكن الانتقال من هذه الأزمات إلى الحكم بأن الدولة في طريقها إلى التفكك يذهب بعيداً عن آليات التحول في المجتمع الإسرائيلي وفي تعاملها مع المنطقة، وأن ما يجري في إسرائيل من أزمات هو تعبير عن إعادة صياغة آليات المجتمع، واستيعاب التلاوين التي تفرزها الساحة السياسية الإسرائيلية ضمن اللعبة الديمقراطية التي يصيغ المجتمع الإسرائيلي من خلالها آليات دمج الاتجاهات الجديدة في الساحة السياسية الإسرائيلية. ولكن القوة التي أعطتها المرونة في التعامل مع القضايا الداخلية الإسرائيلية، كانت نفسها المبرّر الإسرائيلي لعدم تقديم التنازلات إلى الأطراف العربية، خصوصاً الطرف الفلسطيني، وفرصة لتنجز "سلاماً" وفق شروطها التعجيزية، تقضم بموجبه الأرض الفلسطينية، وتملي شروطها على المنطقة.
لا يمكن رؤية الوضع القائم في إسرائيل، والتعاطي مع المنطقة، بناءً على المعطيات السياسية القائمة في إسرائيل، فما يجري اليوم هو نتاج صراع إسرائيلي مع المنطقة امتد أكثر من قرن. انطلق من الأرض التي شكلت محوره الرئيسي، وإذا كانت فلسطين الأرض التي استهدفها المشروع الصهيوني، بوصفه استيطانياً إجلائياً، فإن عدوانية هذا المشروع تتجاوز الأرض الفلسطينية، وتستهدف دول المنطقة للاستمرار بتحقيقٍ تفوق على كل المحيط الإسرائيلي. وبحكم هذه الطبيعة، وضع المشروع الصهيوني حركته على قاعدة الإملاءات التي تناسبه، التي على الآخرين قبولها بأي شكل، ولا يمكن فرض وضعٍ كهذا سوى في سياق هيمنة القوة الإسرائيلية، وكسر شوكة الآخرين. فكانت آليات ولادة دولة إسرائيل تقوم على إقامة جدار من الكراهية مع المنطقة، تحميه آلة حربية قوية.
ينطلق تعامل إسرائيل مع المنطقة اليوم بدعم مطلق أميركي من موقع القوة العارية لفرض
 شروطها، سواء قبل الآخرون أم لا. ولذلك اعتبرت المقايضة التي طرحت في مؤتمر مدريد عام 1991، الأرض مقابل السلام، في إسرائيل اليمينية، وفي إدارة ترامب، غير قابلة للتحقيق، تراجعت إلى مقايضة "المال مقابل الحقوق الوطنية"، وهو العرض الذي استحق وصف رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، دومينيك دو فيلبان، بأنه يتسم بالنذالة.
في كل الأحوال، تعتقد إسرائيل أنها قادرة على فرض شروطها في كل الظروف، في ظل ميزان القوى المختل لصالحها. ولذلك، الصيغة التي تحملها "صفقة القرن" هي صيغة اليمين الإسرائيلي، صيغة "السلام الاقتصادي" الذي تحدث عنه نتنياهو قبل عقدين، مقايضة الحقوق الوطنية الفلسطينية بالمال. قهر الآخرين عبر تفوق القوة، قد يظهر بمظهر محقق الأمن، ولكنه هو منتج لعدم الاستقرار، قضايا الضحايا وحقوقهم الوطنية لا يمكن الاختباء منها وراء دبابة، لأن هذه الدبابة ليست الحل للاحتلال، من ثم ليست الحل لمشكلات إسرائيل مع المنطقة.
نعم، تستطيع أن تبني عرشاً من الرماح، ولكنك لا تستطيع الجلوس عليه، وإذا جلست عليه، لا يمكنك إطالة الجلوس. إسرائيل بنت عرشها النموذجي من القوة والتفوق، ولكنه لن يحلّ مشكلاتها مع المنطقة، ولن تستطيع أن تفرض حلولها، حتى لو جاءت هذه الحلول عبر البوابة الأميركية.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.