الاستبداد بين تغوّل السلطة وتأميم المواطنة

الاستبداد بين تغوّل السلطة وتأميم المواطنة

21 يونيو 2019
+ الخط -
من عناصر تضخّم السلطة الإحساس المتضخم بخلودها. الزعيم الخالد من الشعارات التي تقع في نفس الشخص الساعي إلى السلطة المتشبث بها. إنه لا يشبع من التملك، يسعى إلى الخلود في الدنيا...، وكلما اتسعت دائرة نفوذه وانتشرت صوره وتماثيله في كل مكان، انزلق إلى الاعتقاد بفكرة خلوده، ولو أصابه المرض، أو أدركته الشيخوخة، وأيقن بفكرة موته، فإنه يعمل بسلطانه من خلال أبنائه وتوريثهم، أو توريث بطانته، إن ما يسيطر عليه "ملك لا يبلى". ومن هذه الفكرة يتولد ذلك الرعب الدفين مما بعد السلطة ومحاولة استبعاد ذلك الاحتمال.
يرى المستبد نفسه دائما في السلطة، ويعرف أن النفاق والخوف والتزلف والمزايا التي يجتنيها لا يمكن أن يصل إليها إلا من خلال السلطة واستغلال وجوده فيها، ومن ثم يسعى، مع تضخم الذات، إلى امتلاك السلطة والتشبث بها. ويرى، في كل نصيحة مؤامرة، ولا يثق بأحد ممن حوله، ويسيء الظن بكثيرين، ويتوقع منهم الإيذاء والتآمر.. إنه لا يعرف إلا قانون التسلط والسيطرة للحفاظ على ذاته واستمراره؛ هذه الذات المستبدّة المتضخمة تحاول أن تضع نفسها حيث تراها، فيهتم الزعيم المستبد الخالد بصحته ومظهره وشياكته بشكل واضح؛ ولديه ذات متضخمة يشعر أن الجماهير التي يحكمها محظوظة بحكمه إياها. "عليها أن تحمد ربها أن وضعه القدر في هذا المقام وفي هذا الزمن، إنه المنقذ إنه المخلِّص".
ومع هذا التوحد والتضخم السلطوي، تتضخم الأجهزة الحامية له، والقابضة على جماهيره
"التي ربما لا تستحقه". ومن وجود في السلطة إلى طلب المزيد منها، والتشبث بها، واتهام كل معارض بأنه طامع في السلطة التي يؤكد المستبد، في كل حين، أن الاقتراب منها ممنوع. وهذا يستدعى ممارساتٍ تحايلية والتفافية وتلفيقية، وخداعا وكذبا، وتصبح هذه الأشياء من ضرورات اغتصاب السلطة وتغولها، ويخرج من رحم قاموس الاستبداد والطغيان قاموس آخر يتلازم معه هو قاموس "الفساد وإخوانه"، إذ يعد الفساد من لوازم الاستبداد، ويكون الفساد عامّا ما كان الاستبداد كاملا وشاملا.
الفساد هنا ضرورة بقاء، حتى يحدث تناغم بين المنظومة السلطوية والمنظومة العامة، لأن المنظومة العامة لو بقيت نقيةً في حالة فساد وتلوث المنظومة السلطوية فإنها سرعان ما تلفظها. وفساد السلطة واستبدادها الذي تمارسه فساد كبير يمكن أن يسمح بشيوع الفساد الصغير في مراتب أدنى حتى القاع، بحيث يسمح لها هذا الإفساد باستقرار المستبدّين، وتوحش الفاسدين ويزحف الفساد والمفسدون.
وتصير السلطة المستبدة مشروع فساد وإفساد، ولكنها، مع هذا، سترفع الشعار الذي يخفي هذه الشبكة الاستبدادية والفسادية.. الشعار هو المواطنة الصالحة، والمواطن الصالح، في عرفهم وعلى طريقتهم الذي تنتجه، هو المواطن المؤمم الخانع الخاضع، أو على أقل الفروض، الساكت اللامبالي، على الرغم مما تدعوه وتدّعيه في كل يوم بالمشاركة والفاعلية، وهي تحرمه من كل مشاركة حقيقية وتصادر كل فاعلية جوهرية له. وكل حركة احتجاجية على أحواله، أو على ممارسات السلطة.. هنا المواطن لا يكون صالحا، بل هو مشروع مجرم، أو هو مطلوب لاحقا أو ملاحق مطارد.
ويشكل هذا كله مزيدا من إدمان السلطة وعزلتها، وافتقاد الحياة الطبيعية، ومزيدا من سكرة السلطة والإغراء بالقدرة وغطرسة القوة الكامن فيها، وعناد السلطة الذي لا يخطئ، المتكون من غطرسة السلطة، والتكبر على الناس، واحتقار الآخرين، واحتكارهم، واغتصاب إرادتهم، بحجة أن صاحب السلطة هو العارف والأعلم والأقدر (أبو العرّيف)؛ والذي يمسك بجميع الخيوط. وكل منتقد للسلطة جاهل أو غافل، لأنه لا يعرف، أو متآمر حاقد على إنجازات مُدّعاة. وفي هذا الإطار، تصاب السلطة بحالة من التأله، على الرغم من حال جمودها وحال شيخوختها وحال طغيانها وبطشها.
إنها معادلة الاستبداد والقابلية للاستبداد والفساد؛ السلطة الاستبدادية (الفاسدة المفسدة) + المجتمع (المرتبط بالرضا الكاذب وتزييف الوعي وحالة اللامبالاة والأمن المستباح) = تراكم الظاهرة العشوائية وتكريس قابليات تحكم وإحكام سلطة الاستبداد والفساد.
هذه هي المعادلة التي يمكن أن تخرج بها من هذا الاستعراض للظاهرة العشوائية، والقابلية لها التي تمكن من عناصرها ومن آثارها. الضبط القسري والاكراهي، في ظل حال الاستبداد،
لظواهر كثيرة يمكن أن يؤدي إلى حالة من التفجر العشوائي للظواهر الانحرافية داخل المجتمع، بحيث تحدث حالة من التفكيك الاجتماعي وبنية المجتمع ونسيجه الهيكلي. ولكن في كل مرة سترى الحل الالتفافي يقفز إلى الواجهة، فتعتبر الحادثة "قضاء وقدرا" أو "جنحة إهمال"، أو "إلقاء التهمة على الأضعف" أو "تهريب المسؤول" حتى يمرّ المشهد؛ حتى إذا وقعت الواقعة صار المسؤولون غير مسؤولين، واختفى هؤلاء في لحظتها، ليطلوا علينا، بكل وقاحة، في حفلةٍ أو مهرجان. الأزمات تمرّر والاحتفالات تغطى، والمسؤولون مستمرّون في مقاعدهم، لأنهم لا يخطئون، وفي كل مرة ستمر العاصفة. ويبقى المسؤول "دعه يعمل دعه يمرّ"، ويكمل غموض قواعد اللعبة عملية تعويم الظاهرة ذاتها وعدم مواجهتها، لتستمر الظواهر العشوائية، برضا أصحاب السلطان، ورغم أنف الجميع. ولننتظر مشهدا آخر أقبح من سابقه؛ بين جلد السلطة السميك الذي لا يحس ولا يشعر وثقافة الانتظار ستولد الظواهر العشوائية وتتراكم.
وصناعة الاهتمام بظواهر أقل أهمية، والحديث عن الواقعية في تناول هذه الظواهر، وعدم المبالغة في محاولةٍ لتكريس خطوط وخيوط الانصياع لقوانين الظاهرة العشوائية، إن ملكت تلك القوانين؛ أو تزكية النظام الذي يولد معها. وتبدو العملية في مجملها، إلى جانب عشوائية تكوين الظاهرة والوسط المحيط بها، تنضاف إليها عشوائيات؛ وغاية أمر هؤلاء أن يُسهموا في حل المشكلات، بعقد ندوة هنا أو هناك في أفخم الفنادق، فيحلون هذه القضايا والأزمات بندوة أو ندوات، وكأن في "نصب" الندوة حلا للقضية ومواجهة للأزمة، وغاية أمر قضايانا التي تعتمل على ساحة بلادنا ومجتمعنا، وفي عقر دارنا، أن نتعامل معها بالوأد، تصرخ القضايا في وجهنا "وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت".
ربما سنظل نفتح ملف الظاهرة الاستبدادية العشوائية والظاهرة العشوائية، لأنه سيلد متناقضاتٍ كثيرة، إلا أن الظاهرة العشوائية صارت تحيط بنا وتمسك بتلابيبنا، وصارت تشكل معظم أنساق التفكير والتدبير والتسيير والتغيير والتأثير، فصار ذلك كله عشوائيا، وظلت الاستجابات عليلة وكليلة وعشوائية، تتراوح ما بين الانفعال والافتعال والإغفال، فهل سنظل ننتظر أن تتحوّل العشوائيات إلى أزمات، والأزمات إلى فيضاناتٍ مغرقة وطوفانات مهلكة، وتستمر معادلات الاستبداد والفساد؟ هذا هامش آخر على متن الظاهرة الاستبدادية في حاجةٍ للفحص والتبيّن.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".