القتلةُ لن ينعموا بالسلطة في السودان

القتلةُ لن ينعموا بالسلطة في السودان

20 يونيو 2019
+ الخط -
اختار الشعب السوادني السلميّة خيارا لأشكال ثورته، وإزالة نظام العسكر والتبعية هناك؛ أَسقطَ عمر البشير وعوض بن عوف، وكان عليه أن يُسقط المجلس العسكري ويُشكل قيادةً ثورية، لإدارة شؤون البلاد. التقط المجلس لحظة استقالة بن عوف، وسارع إلى خداع الثورة بادعاء الانتماء إليها، وكي يشتدّ عوده، ويأتي بالدعم والخبرات، ويذبحها. قيادة الجيش و"حميدتي"، والأخير فريقٌ أوّل، تَوجَهُ بهذا اللقب البشير ذاته، وهو مجرّد زعيم مليشيا قبلية إجرامية (جنجويد) وليس عسكرياً بالأصل؛ بل إن كل قيادة الجيش، اصطفاها البشير ذاته، ولن تخرج عن طوعه، كما لم يخرج عبد الفتاح السيسي عن حسني مبارك، وبالتالي وضعت خططها في ليلِ السعودية والإمارات ومصر، كي تسحق الثورة، وتستلم سلطة السودان، ولكن ذلك يتطلب مجازر بالضرورة؛ فالشعب في الساحات، والمدن ترقص يومياً فرحاً بالخلاص من حكم العسكر والإسلاميين، ويؤهل نفسه (الشعب) لنظامٍ ديمقراطي، يتسع لجميع من يُعلي من المدنية والديمقراطية والتعدّدية بكل أشكالها.
كتبتُ من قبل إن عسكر اليوم ليس هو عسكر الأمس. والأوّل، ليس في مقدروه الحكم، ولا يمتلك شيئاً يُرضي به الشعب؛ فهو ضيّقُ الأفق، محدود الرؤية، مبرّرات وجوده التبعية للخارج؛ والمجازر وحدها لا تبني سلطةً، وبالتالي سيفشلون بالضرورة. قيادة جيش السودان فيها زعيم مليشيا، وتبيع البلاد والعباد لكل من يشتري، وهو ما فعلته في مصر والسعودية والإمارات وغيرها، وذهبوا إلى هذه الدول، طلباً للدعمين، المالي والسياسي، كما يفعل السيسي حينما يهبه الخليج مالاً ويستلف من البنوك الدولية. عسكرٌ كهذا سيسقط، ليس لأنّه قاتل، ويرتكب المجازر، ويقمع الناس، بل لأنّه لا يمتلك أيَّ مشروعٍ للمجتمع، بينما انطلقت الثورات بسب افتقاد الناس حاجاتٍ كبرى، وتبدأ بالسياسات الليبرالية الإفقارية وأنظمة القمع!
لا تُنتقد الثورة السودانية بسبب سلميتها، كما يفعل اليسار الممانع الذي يُعيّر الحزب الشيوعي 
السوداني وقيادة الثورة بأنهم لم يُجهزوا جيشاً لحماية الثورة، والأنكى أن ذلك اليسار شيطن الثورة السورية، لأنها تعسكرت بسبب قوة القمع أولاً؛ تُنتقد بسبب بطئها في حسم مسألة السلطة، كما أشرت، وكذلك لضعف الإطار التنظيمي لديها، وهذا ما أكسب المجلس الوقت، للتلاعب بالمفاوضات إلى لحظة المجزرة، والتخلي عن التفاوض، وطرحَ رؤيته الأحادية لمستقبل السودان، والكلام عن انتخاباتٍ بعد عدة أشهر، وضرورة استيعاب حزب البشير والإسلاميين، ومحاولة شقّ صفوف القوى القائدة للثورة. وفي هذا يحاول زعيم حزب الأمة "التاريخي"، الصادق المهدي، اللعب على الطرفين؛ فتارةً يؤيد مشروع العسكر، وتارة مشروع الثورة، ولكن ذلك يُقوي العسكر ويضعف الثورة. تذبذب الصادق بالتحديد يشكل خطراً على مستقبل الثورة، ولكن المجزرة وعودة البشير مجدداً (عبد الفتاح البرهان وحميدتي) كما قالت شاعرة سودانية، وشعور الشعب بأنه أعطى للعسكر أكثر مما يستحق؛ إن ذلك كله سيّقوي الثورة، وسيُحكم الخناق على العسكر، وهو ما فعلته عبر الإضراب السياسي، والعصيان المدني الشامل، وإلى رحيل حكم العسكر. التشدّد في رحيل العسكر وتسليم السلطة لقيادة الثورة لا يقبل مساومة، وما يقترحه البرهان، بعد المجزرة، من مفاوضاتٍ ومن دون شروط، من الخطأ قبوله. وسيكون التفاوض فقط على كيفية خروج العسكر من الحكم، والعودة إلى الثكنات، وتفكيك مليشيا الجنجويد، بقيادة حميدتي، وكل مليشيا أخرى، وإحالته إلى المحاكم قاتلا وناهبا لثروات البلاد، وكذلك كل من أعطى الأوامر بالمجزرة، أو بسبب انتهاكات سابقة.
تعرف الدول الداعمة للانقلابات العسكرية، ولتخريب الثورات، أن انتصار الموجة الثانية من الثورات العربية، ستُجدّد السابقة منها، وستنتقل إلى بلدانٍ أخرى، وهو ما تعيه جيداً الدول الكبرى التي ساهمت في تخريب الثورات، وفي الصمت المطبق عن دمار سورية منذ ثماني سنوات. ولهذا هي تدعم مجلس العار في السودان. الحقيقة التي توضحت، بعد ثماني سنوات من اندلاع الثورات العربية، أنّها لا تواجه أنظمتها فقط، بل تواجه نظام ما بعد الاتحاد السوفييتي، ودولاً استعمارية وإقليمية في منطقتنا، وهذا ما لم تكن تعيه الثورات جيداً، ويفترض أن تعيه راهناً. سورية واليمن وليبيا والسودان الآن توضح تلك المواجهة. وبالتالي ليس صحيحاً أن الثورة السودانية تواجه حميدتي فقط، أو حتى البرهان، أو المجلس بأكمله، وهذا يفرض عليها، إيجاد كل الأشكال الثورية للانتصار، وفتح تاريخ عربي جديد، يُنصفُ أهل السودان، بكل قومياته وتياراته السياسية والثقافية، وكذلك المرأة.
ليس عسكر السودان هو عسكر الجزائر أو مصر أو سورية، والثورة كذلك ليست الثورات 
نفسها. ضعف عسكر السودان وتبعيته الرخيصة، وقوة الثورة، وخصائصها المميزة والتحالفات السياسية والنقابية التي تقودها، تعطي تفاضلاً للثورة السودانية على بقية الثورات العربية، وإمكانية كبرى لانتصارها. طبعاً العسكر كما ارتكبوا مجزرة سيكرّرون الفعل نفسه، ولكن ذلك لن يسمح بقمع الثورة، فالعصيان سيشل البلاد بأكملها، وستُقوي ذلك المجزرة وفقدان العسكر أيّة مشروعية، وحينها سيضطرون لتسليم البلاد. رفضت روسيا والصين قراراً دولياً لإدانة المجلس العسكري. ولكن ماذا تفيد الإدانة؟ ليست أميركا وأوروبا رافضة المجلس. وتتحدث التقارير الصحافية عن ذلك، ولكن تقييد الحركات العسكرية في السودان سلاحها وتأكيد السلمية خيارا للثورة وشعبيتها الكبيرة، وانهيار السودان الاقتصادي، وغياب البعد التأسلمي في الثورة؛ أقول كلها عناصر تفيد بأن أفول حكم العسكر اقترب.
أوقفت قوى الثورة والتغيير العصيان الشامل، والناجح بعد ثلاثة أيام منه، وقبالة ذلك، أفرج المجلس العسكري عن المعتقلين السياسيين، وتمَّ ذلك بوساطة رئيس وزراء إثيوبيا. ولكن قوى الثورة راحت تنظم نفسها في كل المدن والولايات، وتتجهز لمعركة طويلة، فالمجلس رفض ويرفض كل اتفاقياتٍ تهمّش دوره السيادي، ويفعل ذلك من موقع الضعيف، وقد أقرَّ بمسؤوليته عن مجزرةٍ لم تتضح أهوالها بعد، وفشلت أداة الدول الداعمة للثورات، حميدتي، بشكل رئيسي في قمع الثورة، وهذا ما اضطر أميركا للتدخل المباشر والاتحاد الأفريقي يتشدّد أكثر فأكثر. قوى الثورة في موقع القوة الآن، فهي تُمسك الشارع، والعالم يتفاوض معها وقواها متماسكة، ولديها مظلومية جديدة (المجزرة)، وبالتالي ليس من خوفٍ على استلامها الحكم.
في السودان الآن مشكلة سياسية عميقة، وهي العلاقة بين التحالفات القائدة للثورة والإسلاميين، 
حيث الأخيرون كانوا جاءوا بالبشير إلى الحكم في 1989، ووقفت تياراتٌ منهم مع المجلس العسكري الحالي، بينما أعلنت قيادة الثورة قطيعة معهم. المشكلة في وجود قطاعات شعبية مؤيده لهم، وبالتالي، كيف السبيل لطي هذه المشكلة؟
هذه واحدةٌ من مشكلات السياسة في البلاد العربية والإسلامية أيضاً، وهناك اتهامٌ كبير للإسلاميين، بتحالفاتهم من العسكر، ولكن ذلك ليس دقيقاً بصورة كاملة، فهناك تعدّد وتنوّع في هذا الأمر، والمشكلة ذاتها تقف عثرة أمام السودان، وليس الثورة فقط، ويقع على كيفية تجاوزها، الانتقال بالسودان نحو بر الخلاص؛ فهل ستتمكّن القوى السياسية هذه من إنجاز مشروع سياسي، يتجاوز كل أخطاء الماضي، وليس القريب فقط، وتحقيق مصالح السودانيين؟ ليست الإجابة سهلة، والسودان الآن يقف على كل الاحتمالات، وإن كان انتصار الثورة مجدّداً أرجحها، وحتى لو انتصر هذا، فإن قضية استيعاب النظام الجديد لكل التيارات السياسية والثقافية والقومية هي الأساس حالياً ومستقبلاً.